مستقبل الاقتصاد السوري بعد رفع العقوبات: دروس من الماضي وتطلعات للمستقبل

15/05/2025

في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" خلال منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي في الرياض عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ما شكل تطورًا دراماتيكيًا أثار تفاعلًا واسعًا في الأوساط السياسية والاقتصادية، وفتح الباب أمام تساؤلات عديدة حول تداعيات هذا التحول التاريخي.

سنوات من العزلة الاقتصادية

منذ اندلاع الصراع في عام 2011، تعرضت سوريا لأكثر من 2,800 عقوبة اقتصادية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، شملت مجالات حيوية مثل النفط، التجارة، التمويل، والطيران. فُرضت هذه العقوبات ضمن سياق سعي دولي لعزل النظام السوري، ما أدى إلى تجميد أصول الدولة في الخارج، وتقييد حركة الأفراد والمؤسسات، وصولاً إلى إقصاء شبه كامل عن النظام المالي العالمي.

العقوبات – خاصة الأميركية منها مثل قانون "قيصر" – شكلت ضغطًا خانقًا على الاقتصاد السوري. هذا القانون، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2020، منع التعامل مع أي جهة تدعم النظام السوري، ما أدى إلى قطع إمدادات أساسية كالأدوية والوقود ومواد البناء، وساهم بشكل كبير في انهيار قطاعات الصحة والتعليم والخدمات.

بلغة الأرقام: هذا هو الثقل الذي كان على ظهر السوريين:

  • 530 مليار دولار هي القيمة التقديرية للخسائر الاقتصادية التي تكبدتها سوريا خلال سنوات الحرب، بحسب تقارير صادرة عن منظمة "الإسكوا" والبنك الدولي.
  • تراجع إنتاج النفط بنسبة 90%؛ حيث كانت سوريا تنتج أكثر من 380 ألف برميل يوميًا قبل الأزمة، مقارنة بـ20-30 ألف برميل فقط في السنوات الأخيرة.
  • انهيار الليرة السورية، إذ تجاوز سعر الصرف في السوق السوداء حاجز 15,000 ليرة للدولار، مما فاقم معدلات التضخم التي بلغت 130% في بعض الفترات، بحسب تقديرات مرصد الاقتصاد السوري التابع للبنك الدولي.
  • أكثر من 70% من المصانع الصغيرة والمتوسطة في دمشق توقفت عن العمل، بسبب عدم توفر المواد الأولية وصعوبة الوصول إلى التكنولوجيا تحت وطأة العقوبات، وفق "غرفة صناعة دمشق".
  • أسعار الأدوية تضاعفت بأكثر من 300% في بعض المناطق نتيجة توقف خطوط التوريد، بحسب تقارير منظمات إنسانية عاملة في الداخل السوري.

باختصار… ماذا يعني رفع العقوبات اليوم؟

إلغاء العقوبات يمثل نقطة تحول رئيسية في مسار الاقتصاد السوري، إذ يُتوقع أن يسهم في:

  • فتح السوق السورية أمام تدفق السلع الأساسية، لا سيما الأغذية والمواد الطبية.
  • تحسين شروط الحصول على التمويل الدولي، وخصوصًا تمويل إعادة الإعمار، الذي يُقدّر حجمه بـ250-400 مليار دولار وفق دراسة لمركز "كارنيغي".
  • تشجيع الاستثمارات الإقليمية والدولية، خاصة من دول الجوار التي تربطها بسوريا مصالح اقتصادية وتجارية كبيرة.

آثار اقتصادية فورية... وعودة الروح إلى السوق

من الناحية الاقتصادية، شكّلت العقوبات المفروضة على سوريا خلال العقدين الماضيين عقبة كبرى أمام إعادة النهوض. ومع رفع هذه العقوبات، بدأت ملامح التحول تظهر على الأرض بشكل سريع.

تحسّن في سعر الصرف وتفاؤل في الأسواق

يشير الخبير الاقتصادي "يحيى السيد عمر" إلى أن الخطوة الأميركية ستُسهم في فك الحصار المالي عن سوريا، واستعادة العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار والعالم، وهو ما سينعكس مباشرة على التجارة الخارجية، ويفتح الباب أمام استرداد الأصول المجمدة في المصارف الدولية.

من بين أبرز المؤشرات المبكرة على الأثر الفوري للقرار، تعافي الليرة السورية بأكثر من 16% خلال ساعات، وفق تقارير من السوق المحلية، وسط توقعات بضخ مليارات الدولارات من العملة الصعبة في السوق المحلية عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية.

استعداد للاستثمار وإعادة الإعمار

يرى "عبدالعظيم مغربل"، الباحث الاقتصادي، أن القرار يشكل بوابة نحو إعادة هيكلة الاقتصاد السوري، وخلق قاعدة إنتاجية جديدة بعد سنوات من الانكماش. ويؤكد أن تخفيف القيود على قطاعات حيوية، مثل الطاقة، المصارف، النقل، والعقار، سيعيد تشغيل عجلة الاقتصاد، ويوفر فرص عمل جديدة، ما يؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتحسين مستويات المعيشة.

وفي السياق ذاته، تتوقع دراسات حديثة من البنك الدولي و"مجموعة أكسفورد إيكونوميكس" أن تصل الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى ما بين 8 و12 مليار دولار خلال أول عامين بعد رفع العقوبات، في حال استمر الاستقرار السياسي وتحسنت بيئة الأعمال.

تحولات إقليمية... ودعم سياسي غير مسبوق

مثّلت زيارة الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" إلى الرياض لحظة فارقة في سياق العلاقة بين واشنطن ودمشق، لا سيما بعد لقائه بالرئيس السوري الجديد "أحمد الشرع"، في أول لقاء علني بين رئيسي البلدين منذ أكثر من عقدين.

خلال الزيارة، عُقدت اجتماعات رفيعة المستوى جمعت قادة دول الخليج، وعلى هامشها، جاء الإعلان الأميركي عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، إيذانًا بفتح صفحة جديدة في العلاقة بين الجانبين، وبدء مرحلة من الانفتاح السياسي والدبلوماسي الإقليمي تجاه دمشق.

تناغم إقليمي ودولي

الدعم الإقليمي لقرار رفع العقوبات لم يكن وليد اللحظة. فقد سبقه تحرك دبلوماسي واسع تقوده السعودية وقطر وتركيا، بالتوازي مع دعوات من الاتحاد الأوروبي لمراجعة نظام العقوبات المفروض منذ عام 2011. وتأتي هذه الدعوات انطلاقًا من قناعة متزايدة لدى تلك الدول بأن استمرار العقوبات يُعيق جهود إعادة الإعمار، ويزيد من تدهور الوضع الإنساني.

كما أكدت هذه الدول على أهمية احترام وحدة سوريا وسلامة أراضيها، ما يعكس رغبة إقليمية في تعزيز الاستقرار السياسي وتهيئة بيئة مناسبة للعودة الآمنة للاجئين، وتحقيق انتعاش اقتصادي مستدام.

تحوّل إستراتيجي في مشهد الشرق الأوسط

قرار رفع العقوبات الأميركية لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الإقليمي الأوسع، الذي يشهد إعادة تشكيل العلاقات والتحالفات بعد سنوات من النزاعات المفتوحة. توقيت القرار، إلى جانب اللقاءات الرسمية التي رافقته، يشير إلى تحول إستراتيجي في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، حيث بدأت واشنطن تعتمد مقاربة جديدة تقوم على الواقعية الاقتصادية والدبلوماسية المرنة، بدلًا من المقاطعة والعزل.

الاقتصاد بوابة للتماسك الاجتماعي

لا تقتصر تداعيات رفع العقوبات عن سوريا على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل تمتد إلى البنية السياسية والاجتماعية للدولة، حيث يُنظر إلى الانفراجة الاقتصادية كمدخل فعلي لإعادة بناء الروابط الوطنية وتعزيز الاستقرار الداخلي.

تقارب محتمل مع مناطق خارجة عن السيطرة

يرى الأستاذ "باسل حفار"، مدير مركز إدراك للدراسات والاستشارات السياسية، أن القرار الأميركي سيمكن الحكومة السورية من تعزيز قدراتها الاقتصادية والخدمية، ما يمنحها أدوات جديدة للتواصل مع المناطق الخارجة عن سيطرتها الفعلية، مثل شمال شرق سوريا ومحافظة السويداء.

ويؤكد أن تقديم حلول اقتصادية ملموسة لتلك المناطق – مثل تأمين الوقود، الخدمات الصحية، والدعم المالي – قد يشكل نقطة جذب نحو مركزية الدولة، ويُسهم في إعادة دمج المكونات الاجتماعية تحت مظلة مؤسساتية واحدة، بعيدًا عن الحلول الأمنية التقليدية.

هذا السيناريو يحاكي تجارب دول أخرى خرجت من نزاعات ممتدة، مثل العراق والبوسنة، حيث كان التمكين الاقتصادي جزءًا أساسيًا من عملية المصالحة الوطنية وبناء السلام الأهلي.

الاستقرار الاجتماعي يبدأ من تحسين مستوى المعيشة

يُشير الباحث الاقتصادي "عبدالعظيم مغربل" إلى أن أي تحسّن اقتصادي ملموس، سواء من خلال فرص العمل أو استقرار العملة، سينعكس على مستويات العيش والأمان الاجتماعي، وبالتالي سيُقلل من دوافع الهجرة والتهريب والانخراط في الأنشطة غير المشروعة.

ويضيف أن تعزيز الإنتاج والدخل سيساهم في تحول ثقافي ومجتمعي تدريجي، حيث تنتقل المجتمعات من مشاعر الإحباط والانفصال إلى شعور بالانتماء والمشاركة في إعادة البناء. وهذا يعزز بدوره مفاهيم مثل المواطنة، الثقة بالمؤسسات، والمسؤولية الجماعية، ما قد يغيّر خطاب الكراهية والانقسام الذي ساد خلال سنوات الحرب.

الأثر النفسي والسياسي للتحسن الاقتصادي

يوضح "مغربل" أن التحول الاقتصادي قد يُحدث أثرًا نفسيًا عميقًا لدى المواطنين، إذ يشعرون بتحسن ملموس في حياتهم اليومية، ما يولّد رغبة فعلية بالحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني، لا من منطلق الخوف أو القمع، بل كخيار عقلاني مرتبط بتحقيق الطموحات.

هذا الشعور قد يكون نقطة انطلاق لسلام أهلي قائم على العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي، وهو ما يتجاوز مفاهيم "التهدئة المؤقتة" التي سادت خلال فترات النزاع المسلح.

على المستوى الإداري والأمني: إعادة هيكلة كاملة

على المستوى الأمني، يرى "باسل حفار" أن رفع العقوبات سيُتيح للحكومة السورية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والمؤسسات الإدارية، من خلال تمويلها وتأهيلها على أساس عقيدة أمنية جديدة تركز على حماية المدنيين والاستقرار الاجتماعي بدلًا من القمع.

كما يؤكد أن هذه المرحلة تتطلب تغييرات جوهرية في طريقة تعامل الدولة مع المجتمعات المحلية، بما يشمل إعادة بناء الثقة، وضمان سيادة القانون، وإعادة الاعتبار لمفهوم الوظيفة العامة كخدمة للمواطن.

مكافحة الجريمة والتهريب تبدأ بالفرص

يرى "مغربل" أن الانفراجة الاقتصادية ستُقلص من المظاهر السلبية الناتجة عن الانهيار الاقتصادي، مثل تهريب البشر والمخدرات والأسلحة، التي تفشت في ظل تراجع مؤسسات الدولة وضعف سيطرتها على بعض المناطق الحدودية.

ويضيف أن خلق بيئة معيشية مقبولة، وتوفير وظائف لآلاف الشبان، سيُقلل من احتمالات تورطهم في أعمال غير قانونية، ويساهم في إعادة التوازن إلى النسيج المجتمعي، وهو عامل أساسي لاستقرار طويل الأمد.

انفتاح جيوسياسي... وسوريا تستعيد موقعها الإقليمي

في سياق التغيرات المتسارعة على خارطة التحالفات في الشرق الأوسط، يُشير الأستاذ "باسل حفار" إلى أن رفع العقوبات عن سوريا يأتي كجزء من إعادة التموضع الإقليمي والدولي، وليس مجرد استجابة لحاجة اقتصادية داخلية. هذا الانفتاح – الأميركي ومن قبله الأوروبي – يعكس توجهًا استراتيجيًا جديدًا يقوم على إعادة توزيع الأدوار والمصالح في المنطقة، لا سيما بعد حالة الجمود التي سادت خلال العقد الماضي.

الموقع الجغرافي يعود إلى الواجهة

بفضل موقعها الجغرافي الحيوي، تُعد سوريا حلقة وصل طبيعية بين تركيا، الخليج العربي، وأوروبا. ويؤكد "حفار" أن رفع القيود الاقتصادية سيسمح لسوريا باستعادة دورها كممر تجاري إقليمي محوري، بما يعزز من قيمتها الجيوسياسية ويمنحها ورقة تفاوض قوية في أي ترتيبات مستقبلية تخص أمن المنطقة واقتصادها.

عودة اللاجئين وشراكات اقتصادية واعدة

من جانبه، يشير "عبدالعظيم مغربل" إلى أن تجاوز مرحلة العقوبات سيفتح المجال أمام عودة تدريجية لملايين اللاجئين السوريين من دول الجوار، مثل لبنان، تركيا، الأردن والعراق. هذا التطور لا يخفف فقط من الضغط على الدول المضيفة، بل يقلل من الاحتكاكات الاجتماعية والسياسية، ويمهد الأرضية لحلول دائمة لأزمة النزوح.

ويُضيف أن الاستقرار في سوريا سيُسهم أيضًا في خفض التوترات الحدودية، ويفتح الباب أمام شراكات إقليمية جديدة في مجالات حيوية مثل الطاقة، النقل، البنية التحتية، والإعمار، ما قد يحوّل سوريا من بؤرة نزاع إلى محور استقرار اقتصادي وتنموي في المنطقة.

انطلاقة جديدة لسوريا والمنطقة

إن قرار رفع العقوبات عن سوريا ليس مجرد إجراء اقتصادي أو سياسي معزول، بل يشكّل منعطفًا حاسمًا في مسار الدولة والمجتمع، ويمنح البلاد فرصة ثمينة لإعادة ترتيب أولوياتها الوطنية من جديد.

لقد أعاد القرار فتح الأبواب أمام انتعاش الاقتصاد السوري، وتحفيز الاستثمار، وتمكين مؤسسات الدولة، كما أتاح المجال لإعادة توحيد المجتمع السوري على أسس جديدة قائمة على العدالة، الإنتاج، والانفتاح.

لكن الأثر الإيجابي لا يتوقف عند حدود سوريا، بل يمتد ليشمل كامل الإقليم. فمن شأن هذا التحول أن يعيد تشكيل شبكة التحالفات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، ويدفع نحو مرحلة تعاون إقليمي أوسع، تتجاوز منطق الصراع إلى منطق البناء المشترك.

صحيح أن التحديات ما تزال عميقة ومعقدة، من بُنى اقتصادية منهارة إلى فجوات مجتمعية وسياسية واسعة، لكن هذه الخطوة قد تمثّل نقطة الانطلاق نحو مشروع وطني شامل لبناء دولة سورية حديثة، مستقرة، وعادلة، تعيد رسم علاقتها بمواطنيها وبالعالم من حولها.

شارك رأيك بتعليق

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات متعلقة: