
في خطوة يُنظر إليها على أنها مفصلية في مسار إعادة إعمار سوريا، وقّعت الحكومة السورية مذكرة تفاهم ضخمة بقيمة 7 مليارات دولار مع تحالف دولي من شركات قطرية وأميركية وتركية، لتطوير مشاريع استراتيجية في قطاع الكهرباء والطاقة المتجددة. وتتضمن المذكرة إنشاء أربع محطات كهرباء بتقنية الدورة المركبة في كل من دير الزور، محردة، زيزون، وتريفاوي، إضافة إلى محطة طاقة شمسية بسعة 1000 ميغاوات في منطقة وديان الربيع جنوب البلاد.
الكهرباء… شريان التنمية
يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي "الدكتور إبراهيم نافع قوشجي" أن هذه الخطوة تعكس "أولويات استراتيجية تنموية واضحة"، مضيفًا أن الحكومة السورية وضعت قطاع الطاقة—وخاصة الكهرباء—في صدارة أولوياتها، لما له من دور أساسي في تحسين حياة المواطنين وتحفيز النمو الاقتصادي.
وقال:
"الكهرباء ليست مجرد خدمة، بل هي شريان ينعش النشاط الاقتصادي. فهي تُمكّن المصانع من استئناف الإنتاج، وتفتح الباب أمام الاستثمارات، لا سيما في القطاعين السياحي والتجاري، كما تعزز حيوية الأسواق المحلية".
استقرار وأمن مجتمعي
وفي بُعد يتجاوز الاقتصاد، أشار "قوشجي" إلى أن الكهرباء تساهم بشكل مباشر في تحقيق الأمن والاستقرار، من خلال إنارة الشوارع والمناطق السكنية، الأمر الذي يقلل من المخاطر، ويحسّن من جودة الحياة في المدن والمجتمعات.
كما اعتبر أن استقرار التيار الكهربائي يُعد ركيزة للخدمات الصحية الحيوية، موضحًا أنه "يضمن تشغيل الأجهزة الطبية الأساسية ويوفر بيئة علاجية متكاملة، ما يجعل استدامة الطاقة جزءًا لا يتجزأ من النظام الصحي الوطني".
التعليم والمنازل… حيث تبدأ التفاصيل
وفيما يخص قطاع التعليم، قال "قوشجي" إن الكهرباء "تمثّل عاملاً حاسماً في توفير بيئة مناسبة للدراسة والبحث العلمي، سواء في المدارس أو الجامعات". وأردف قائلاً إن دور الكهرباء في المنازل لا يقل أهمية، فهي "ضرورة يومية وليست رفاهية، تسهم في راحة الأسر، وتشغيل الأجهزة الأساسية، وضمان الدفء خلال الشتاء القارس".
قاطرة النمو الصناعي والاستثماري
أوضح "قوشجي" أن استقرار الكهرباء ينعكس مباشرة على الاقتصاد الوطني، من خلال تحفيز الإنتاج الصناعي، وتحسين بيئة الاستثمار، ورفع كفاءة الخدمات. كما أشار إلى أن ذلك "يمكن المشاريع الصغيرة والمتوسطة من العمل بفعالية، ويقلل التكاليف التشغيلية، ويخلق فرص عمل جديدة، مما يدفع عجلة النمو نحو الاستدامة".
وختم بالقول:
"إعادة إحياء منظومة الكهرباء ليست خطوة تقنية فحسب، بل بوابة نحو مستقبل أكثر ازدهاراً واستقراراً لسوريا، تعيد للناس قدرتهم على التحكم بحياتهم اليومية، وتضيء درب التنمية بعد سنواتٍ من العتمة".
أبعاد أوسع للمذكرة
بحسب بيان رسمي، فإن المشاريع الكهربائية الجديدة ستوفر ما لا يقل عن 300 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، ما يجعلها من أكبر المشاريع الاقتصادية في سوريا خلال السنوات الأخيرة. كما أن إدراج محطة طاقة شمسية ضمن الاتفاق يعكس توجهًا واضحًا نحو الاعتماد على مصادر طاقة نظيفة، تماشيًا مع الأهداف العالمية للتنمية المستدامة.
في سياق مشابه، أشار تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) في 2024 إلى أن الاستثمار في البنية التحتية الكهربائية والطاقة المتجددة في الدول الخارجة من الصراع يمكن أن يؤدي إلى نمو اقتصادي يتجاوز 6% سنويًا، شريطة وجود بيئة استثمارية مستقرة. وهذا ما تسعى الحكومة السورية إلى تحقيقه من خلال هذه المذكرة.
تجربة دولية
في دول مثل العراق ورواندا، أثبتت التجارب أن إعادة إعمار قطاع الكهرباء ليست مجرد مسألة خدمات، بل هي ركيزة لتحريك كل القطاعات الأخرى. في العراق، مثلًا، رُصد أكثر من 10 مليارات دولار بين 2017 و2022 لإصلاح المنظومة الكهربائية، مما ساعد على:
- خفض نسبة البطالة في المناطق المستهدفة.
- استقطاب مستثمرين في قطاعات صناعية وتجارية.
- تحسّن جودة الخدمات الصحية والتعليمية.
أما في رواندا، فقد شكّلت الطاقة المتجددة (وخاصة الطاقة الشمسية) عاملاً رئيسيًا في مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي خلال عقد واحد فقط، بحسب تقارير البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
الرسالة هنا واضحة: الكهرباء ليست قطاعًا منفصلًا، بل منصة انطلاق للنمو الشامل.
لماذا الدورة المركبة؟ ولماذا الطاقة المتجددة؟
تقنية الدورة المركبة التي تنوي الحكومة استخدامها في سوريا، تُعد من الأكثر كفاءة في توليد الكهرباء من الغاز الطبيعي. إذ تتيح استعادة الحرارة الناتجة عن التوربينات الغازية لتشغيل توربينات بخارية، ما يزيد كفاءة المحطة إلى أكثر من 60% مقارنة بـ35–40% في المحطات التقليدية.
أما الاستثمار في محطة طاقة شمسية بقدرة 1000 ميغاوات في وديان الربيع، فهو يتماشى مع الاتجاه العالمي لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، ويُخفف الضغط على الشبكة الوطنية في أوقات الذروة. وفقًا لـIRENA، يمكن لكل 1000 ميغاوات من الطاقة الشمسية أن:
- تغطي احتياجات أكثر من 1.5 مليون منزل.
- توفر ما يقرب من 50,000 فرصة عمل مؤقتة ودائمة.
- تُقلل الانبعاثات الكربونية بما يعادل إزالة 200,000 سيارة من الطرق سنويًا.
تأثير مباشر على الاستثمار والقطاع الخاص
الكهرباء المستقرة ليست فقط شرطًا للإنتاج، بل شرطًا لبقاء الشركات، خاصة المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2024)، فإن انقطاع الكهرباء المتكرر في الدول النامية يؤدي إلى خسائر سنوية تصل إلى:
- 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
- 5–15% من أرباح الشركات الصغيرة.
توفير طاقة موثوقة في سوريا من شأنه أن يُعيد ثقة المستثمرين المحليين والدوليين، خاصة في القطاعات الزراعية، الغذائية، والصناعات التحويلية، التي لا تستطيع العمل على مولدات أو حلول بديلة باهظة.
زاوية تحليلية – ماذا بعد الكهرباء؟
نجاح هذه المشاريع الكهربائية قد يكون المفتاح لخطط إعادة الإعمار الأوسع، لكن ذلك يتطلب:
- إدارة مؤسساتية فعالة تمنع الفساد والهدر.
- شراكات مع القطاع الخاص لضمان الاستدامة المالية.
- إطار تشريعي حديث يشجع على إنتاج الكهرباء وتوزيعها بطرق مرنة، خاصة في الطاقة المتجددة.
كما سيكون من المهم توفير تعليم تقني ومهني يُهيئ الشباب السوري لسوق عمل جديد في مجالات الطاقة، من الصيانة والتشغيل إلى تصميم الشبكات والتحكم الذكي.