
منذ أكثر من عقد، تعكس الليرة السورية انهيار الاقتصاد بكل وضوح. فالورقة الأعلى المتداولة اليوم هي فئة 5,000 ليرة، لكنها لا تساوي سوى نصف دولار تقريباً، بعدما كانت في عام 2011 تعادل أكثر من مئة دولار. هذه الفجوة الهائلة في القيمة جعلت المعاملات اليومية مرهقة: الناس يحملون رزم أوراق نقدية لتغطية أبسط الاحتياجات، والاقتصاد يترنح بين تضخم جامح وشح في الثقة بالعملة.

الحاجة إلى إصلاح
غياب فئات أكبر (مثل 10,000 ليرة) فاقم الأزمة، وترك السوق غارقاً في مشاكل تقنية ونقدية. ومع الإعلان عن خطة حذف صفرين من العملة في ديسمبر المقبل، تبدو الحكومة وكأنها تحاول تقديم حل تقني وسياسي في آن واحد. تاريخياً، أكثر من 70 دولة اعتمدت هذه السياسة منذ الستينيات لمواجهة التضخم، وهي ليست مجرد عملية حسابية بل محاولة لإعادة ترميم الثقة بالنقد المحلي.
في سوريا، يعني الحذف أن تتحول ورقة الـ5,000 ليرة إلى 50 ليرة جديدة، ما يبسط الحسابات ويخفف عن جيوب الناس. لكن الأهم أن الاستبدال سيجبر جزءاً من السيولة الضخمة المتداولة خارج النظام المصرفي (تقدّر بنحو 40 تريليون ليرة) على العودة للبنوك، وهو ما قد يساعد المصرف المركزي على ضبط السوق وتتبع الأموال غير المشروعة. فوق ذلك، يضيف القرار بعداً رمزياً: اختيار تاريخ 8 ديسمبر ليس اعتباطياً، بل يفتح الباب لتغييرات سياسية رمزية مثل إزالة صور بشار وحافظ الأسد من العملة، كما فعلت دول أخرى بعد تحولات سياسية عميقة.
خطوة محفوفة بالمخاطر
لكن هذه العملية ليست بلا ثمن. السوق السوري يعاني من شح في السيولة، وأي تغيير مفاجئ قد يفجر اضطرابات جديدة. تجربة رفع الرواتب الأخيرة بنسبة 200% كشفت هشاشة الوضع: مجرد زيادة السيولة دفعت الليرة للتراجع أكثر من 5% في أيام قليلة. إذاً، هل يستطيع الاقتصاد أن يتحمل صدمة نقدية بهذا الحجم؟
الأخطر أن الحكومة لم تعلن حتى الآن عن الأسس العلمية لتحديد قيمة العملة الجديدة. في الظروف الطبيعية، تستند قيمة أي عملة إلى مؤشرات مثل الاحتياطيات الأجنبية، معدلات التضخم، حجم الناتج المحلي. غياب هذه الشفافية يترك الليرة رهينة المضاربات والتوقعات النفسية أكثر من الحقائق الاقتصادية، وهو ما قد يفرغ العملية من أهدافها.
ارتباك اجتماعي محتمل
للمسألة أيضاً بعد اجتماعي. المواطن السوري اعتاد لسنوات على التعامل بـ"الآلاف" و"الملايين". الانتقال الفجائي إلى أرقام أصغر قد يخلق ارتباكاً واسعاً، خاصة لدى كبار السن والعمال في الاقتصاد غير الرسمي. تجربة تركيا عام 2005 حين حذفت ستة أصفار أوضحت ذلك: المحلات ظلت تعرض الأسعار قبل الحذف وبعده لمدة عام كامل. وفي مثل هذه الفترات، يستغل بعض التجار ارتباك الناس لرفع الأسعار بشكل غير مبرر، ما يزيد الضغوط المعيشية على المستهلكين.
تأثير على التجارة والاستثمار
الأبعاد لا تتوقف عند الداخل. بالنسبة للتجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية، فإن إدخال عملة جديدة في بيئة غامضة قد يزيد التردد لدى المستثمرين والشركاء التجاريين. انعدام الوضوح حول قيمة العملة ومعايير تسعيرها يبعث إشارات سلبية للأسواق.
كذلك ستواجه التحويلات المصرفية الدولية عراقيل تقنية وقانونية: البنوك المراسلة ستحتاج إلى تحديث أنظمتها للتعامل مع العملة الجديدة، ما قد يؤدي إلى تأخيرات وتكاليف إضافية، وبالتالي تراجع في حركة التجارة الخارجية.
وبينما يفترض أن تعزز العملية الثقة بالليرة، هناك احتمال أن تأتي بنتائج عكسية: أي اضطراب في قيمتها قد يدفع السوريين أكثر نحو الاعتماد على الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، وهو ما يقوض الهدف الأساسي للعملية.
دروس من التجارب الدولية: نجاحات وإخفاقات
تاريخ حذف الأصفار من العملات مليء بالدروس المتناقضة. فتركيا مثلًا، عندما حذفت ستة أصفار عام 2005، شهدت تحسناً فورياً في المعاملات وسهولة في الحسابات، لكن التجربة أظهرت أن النجاح الشكلي لا يكفي إذا لم ترافقه إصلاحات اقتصادية جذرية. فاليوم، الليرة التركية تجاوزت 41 ليرة للدولار، بعد أن كانت لا تتعدى الليرتين آنذاك، ما يعكس هشاشة الإنجاز أمام غياب معالجة أسباب التضخم.
على النقيض، تقدّم البرازيل مثالًا أكثر استدامة: في ثمانينيات القرن الماضي نجحت في إصلاح عملتها بفضل خطة شاملة لمكافحة التضخم وإصلاحات اقتصادية متزامنة، وهو ما عزز الثقة بالعملة وربطها بإطار اقتصادي متماسك.
أما زيمبابوي فقدمت النموذج الأسوأ: بين 2003 و2009 حذفت 25 صفرًا من عملتها، لكن الانهيار كان شاملاً لدرجة التخلي نهائياً عن العملة الوطنية.
وتجربة نيجيريا الأخيرة عام 2022 تطرح درسًا مختلفًا. ورغم أن الأمر اقتصر على تغيير تصميم العملة دون حذف أصفار، إلا أن سوء التواصل مع الجمهور وضعف التخطيط قادا إلى أزمة اجتماعية واسعة: نقص السيولة في البنوك وأجهزة الصراف، توقف التجارة في الأسواق الشعبية، واندلاع أعمال شغب. الرسالة واضحة: أي عملية تغيير نقدي، مهما بدت تقنية، تحتاج لتخطيط صارم وضمان توفر السيولة الكافية مع تواصل واضح يبدد ارتباك الناس.
التكلفة المالية والاقتصادية: عبء إضافي
بعيدًا عن الجوانب التقنية والنفسية، هناك عبء مالي ثقيل يرافق الإصلاح. تقديرات التكلفة في الحالة السورية قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات لطباعة العملة الجديدة، بالنظر إلى حجم الكتلة النقدية المتداولة (نحو 40 تريليون ليرة). هذا في وقت تعاني فيه البلاد من نقص حاد في الموارد وتحتاج كل دولار لإعادة الإعمار وتأمين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم.
للمقارنة، تكلفة طباعة ورقة الدولار الأمريكي في اقتصاد متقدم تتراوح بين 5.4 إلى 19.4 سنت حسب الفئة. لكن في سوريا، حيث يلزم اعتماد مواصفات أمنية عالية ومعدات متطورة، فإن الكلفة ستكون أكبر نسبيًا.
المعضلة الأهم ليست مالية فقط بل سياسية. فالاعتماد على شركة Goznak الروسية لطباعة العملة، بحسب ما نشرته رويترز، يثير أسئلة حساسة. الشركة نفسها خاضعة للعقوبات الغربية، ما يجعل العملية مرتبطة بتبعية سياسية وتقنية قد تزيد عزلة سوريا وتحد من فرص الحصول على دعم دولي. كما أن أي خلل في العلاقات مع موسكو مستقبلاً قد يترك دمشق عاجزة عن طباعة أو تحديث عملتها، وهو ما يضيف طبقة جديدة من الهشاشة على مستقبل النقد السوري.
البدائل الممكنة: بين الواقعية والطموح
أمام تعقيدات حذف الأصفار والتكلفة الباهظة المترتبة عليه، تبرز مقترحات أخرى قد تكون أكثر عملية وأقل خطورة. أحد هذه البدائل هو إصدار فئات نقدية أعلى، مثل ورقة 20,000 ليرة، من دون الدخول في عملية إعادة تقييم كاملة. هذا الخيار يمكن أن يحقق التبسيط المطلوب في المعاملات النقدية اليومية، ويمنح الحكومة فسحة زمنية أوسع لالتقاط الأنفاس، وضبط السوق تدريجياً، بدل المخاطرة بصدمة نقدية شاملة.
إصدار فئات جديدة عالية القيمة يوفّر كذلك تكاليف طباعة أقل مقارنة بالعملية الكاملة لحذف الأصفار، ويجنب المواطن ارتباك التحول إلى نظام أرقام جديد، ويخفف من فرص الاستغلال التجاري أو الأخطاء المحاسبية. الأهم أنه يتيح للحكومة أن تركز على الجبهات الأكثر إلحاحاً: إعادة الاستقرار السياسي والأمني، وهما ركيزتان أساسيتان لأي إصلاح اقتصادي ناجح.
بين المبررات والتحديات
لا شك أن قرار حذف صفرين من الليرة له مبررات اقتصادية واجتماعية واضحة. فالوضع الحالي للعملة مرهق وغير عملي، والتوقيت الرمزي قد يمنح القرار بعداً سياسياً وهوية جديدة. لكن هذا لا يلغي أن التحديات ضخمة:
- هشاشة السوق أمام أي تغيير في السيولة.
- الارتباك الاجتماعي المتوقع مع تبدّل الأرقام فجأة.
- غياب الأسس العلمية المعلنة التي تحدد القيمة الفعلية للعملة الجديدة.
التجارب الدولية، من تركيا إلى البرازيل وزيمبابوي، أظهرت أن النجاح ممكن، لكنه لا يتحقق بمجرد حذف الأصفار، بل عبر خطة شاملة للإصلاح الاقتصادي، تتكامل فيها السياسة النقدية مع سياسات مالية وإنتاجية واضحة.
ليست عصا سحرية
إن نجاح هذه الخطوة سيبقى مرهوناً بقدرة الحكومة على مواجهة التحديات بشفافية، وإقناع المواطنين والمؤسسات بالثقة بالعملة الجديدة. من دون ذلك، سيظل الحذف مجرد إجراء شكلي لا يغيّر الواقع.
بالمحصلة، حذف الأصفار قد يكون خطوة مهمة، لكنه ليس الحل الشامل. إعادة بناء الاقتصاد السوري تحتاج إلى إصلاحات أعمق تتعلق بالإنتاج، الاستثمار، البنية التحتية، ومكافحة الفساد. أما العملة الجديدة، فهي مجرد أداة ضمن مشروع أكبر، والوقت وحده سيكشف ما إذا كانت هذه التجربة ستسجَّل كنجاح تاريخي أو كحلقة إضافية في سلسلة الإخفاقات النقدية.