الهوية الاقتصادية لسوريا الجديدة… ما هي السوق الحرة وكيف ستكون؟

31/12/2024

سوريا الجديدة تستعد للمرحلة المقبلة بتركيزها على إعادة بناء مؤسساتها، وخاصة الاقتصادية، بعد انتهاء عهد آل الأسد. تشهد البلاد حاليًا حديثًا مكثفًا حول عقد مؤتمر وطني لصياغة دستور جديد يضع أسسًا لعهد جديد يرتكز على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مع إعلاء قيم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

ورغم الطموحات العالية، تواجه البلد تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة في المرحلة الانتقالية. من أبرز هذه التحديات، ما أشار إليه تقرير البنك الدولي الصادر في مايو/أيار 2024، الذي يوضح أن 69% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، بينما يعاني 27% منهم من الفقر المدقع. هذه الأرقام تعكس واقعًا اقتصاديًا يحتاج إلى حلول جذرية تعالج آثار السياسات السابقة وتعيد الأمل إلى الأسر السورية.

وهناك حاجة لإصلاحات قانونية شاملة تدعم النهضة الاقتصادية. وقد بدأت حكومة تصريف الأعمال برئاسة "محمد البشير" باتخاذ خطوات أولية لتعزيز الأجواء الاقتصادية، شملت تحرير سعر الصرف وتنظيم تداول النقد الأجنبي، إلى جانب قرارات أخرى تتعلق بتحسين الأنظمة الجمركية. 

هذه الخطوات تمهد الطريق لبناء اقتصاد أكثر استقرارًا ومرونة في سوريا الجديدة، وقد تكون تمهيدًا للهوية الاقتصادية الجديدة في سوريا التي يقول الخبراء إنها ستكون اقتصاد السوق الحرة.

مفهوم اقتصاد السوق الحر

اقتصاد السوق الحر هو نظام اقتصادي يعتمد على قوانين العرض والطلب لتحديد أسعار وكميات السلع والخدمات، حيث تكون الشركات والأفراد هم اللاعبين الرئيسيين في السوق. يعود هذا النظام إلى النظريات التي قدمها الاقتصاديون الكلاسيكيون، مثل "آدم سميث" و "ديفيد ريكاردو"، الذين رسخوا مبادئ حرية التجارة وحقوق الملكية كركائز أساسية لاقتصاد السوق.

مميزات اقتصاد السوق الحر

يمتاز هذا النظام بمرونته وقدرته على دعم الابتكار، حيث يتيح للأفراد والمستثمرين فرصة تبني الأفكار المبتكرة وتنفيذها بحرية. هذا يساهم في خلق بيئة مواتية لجذب العمالة وتنشيط الاقتصاد. كما يتيح للسوق تلبية احتياجات المستهلكين من خلال تقديم منتجات وخدمات بأسعار تنافسية وجودة عالية، مع ضمان خيارات متعددة، مما يعزز من رفاهية الأفراد ويدعم الاقتصاد الوطني.

التوجهات الإقليمية والدولية

رغم أن السوق الحرة تُعتبر النموذج المفضل عالميًا، إلا أن تطبيقها يختلف حسب خصوصيات كل دولة. فبعض الدول تضع قيودًا على التجارة والاستثمارات الأجنبية، أو تبقي للدولة دورًا نشطًا في الاقتصاد لأسباب اجتماعية واقتصادية أو متعلقة بالأمن القومي. على سبيل المثال، شهدت روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي حالة من الفوضى الاقتصادية، لكنها أعادت ترتيب أوضاعها مع تولي "فلاديمير بوتين"، مع الحفاظ على توازن بين القطاع الخاص ودور الدولة في الاقتصاد.

دروس مستفادة من تجارب الدول

أشار الاقتصادي الإنجليزي جون تشانج في كتابه "ركل السلم بعيدًا.. إستراتيجيات التنمية والتطور قديمًا" إلى أن الدول المتقدمة لم تتبنى السوق الحرة منذ البداية بشكل كامل. بل عمدت إلى وضع ضوابط لحماية اقتصادها الناشئ، سواء فيما يتعلق بحرية التجارة أو حركة رؤوس الأموال، ولم تنتقل إلى الحرية الكاملة إلا بعد بناء قدراتها الاقتصادية والصناعية.

نحو اقتصاد سوق حر في سوريا الجديدة

بالنظر إلى الحالة السورية بعد الثورة التي أطاحت بالطاغية "بشار الأسد"، فإن الانتقال نحو اقتصاد السوق الحر يبدو خيارًا واعدًا. ومع ذلك، يتطلب هذا الانتقال مراحل تدريجية لضمان استقرار الاقتصاد وتأهيل المجتمع للتكيف مع النظام الجديد.

وينبغي أن تركز هذه المراحل على بناء القدرات الإنتاجية الوطنية، وتحقيق توازن بين تشجيع القطاع الخاص وضمان دور للدولة في تنظيم الأسواق وحماية الفئات الأكثر تضررًا. بهذه الطريقة، يمكن لسوريا أن تحقق انتقالًا سلسًا نحو نظام اقتصادي أكثر كفاءة وعدالة.

خصوصية الحالة السورية

عانت سوريا، خلال فترة الحرب التي شنها نظام الأسد ضد الشعب السوري من تدهور اقتصادي حاد. تراجعت معدلات النمو، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 8 مليارات دولار بعد أن كان حوالي 61 مليار دولار في عام 2010. هذا الانهيار الاقتصادي جعل إعادة البناء والتنمية الاقتصادية تحديًا معقدًا يتطلب تخطيطًا محكمًا ورؤية طويلة الأمد.

في هذا السياق، أعلن رئيس غرفة تجارة دمشق، باسل الحموي، أن الحكومة السورية الجديدة تنوي تبني نموذج السوق الحرة ودمج البلاد في الاقتصاد العالمي، في تحول كبير عن النهج السابق الذي كان يعتمد على سيطرة الدولة على مفاصل الاقتصاد. ورغم أن هذا التوجه يحمل آمالًا كبيرة لرجال الأعمال، إلا أنه يثير تساؤلات حول كيفية تحقيق تنمية مستدامة في ظل الظروف الراهنة.

تحديات السوق الحرة في سوريا

يأتي هذا التحول في وقت تعاني فيه البلاد من نقص حاد في السلع والخدمات الأساسية، خاصة في المناطق التي تأثرت بشدة جراء سيطرة النظام السابق. وبينما يميل التجار إلى التركيز على تحقيق أرباح سريعة عبر استيراد السلع أو التجارة في المنتجات المستوردة، فإن هذه النظرة قد لا تخدم الأهداف التنموية التي تحتاجها سوريا في مرحلة إعادة البناء.

من المهم الإشارة إلى أن الاعتماد المفرط على المنتجات المستوردة يمكن أن يحول البلاد إلى مجرد سوق استهلاكية للمنتجات الأجنبية، مما يؤدي إلى ضعف القطاع الإنتاجي المحلي وعدم قدرته على المنافسة. هذا الوضع قد يدفع المنتجين المحليين إلى تقليص نشاطهم الإنتاجي بسبب التكاليف المرتفعة وضعف العائدات.

ضرورة دعم القطاعات الإنتاجية

لبناء اقتصاد قوي ومستدام، يجب وضع خطة تنمية متكاملة تركز على دعم القطاعات الإنتاجية المحلية. هذا يتطلب سياسات تشجع على استخدام مستلزمات الإنتاج المحلية، وتحفيز اليد العاملة السورية الماهرة، مع توفير تمويل داخلي يعزز من الاستقلال الاقتصادي. كذلك، تحتاج هذه الخطة إلى تقديم حوافز مثل التعريفات الجمركية لحماية الإنتاج المحلي من المنافسة غير العادلة، وتنظيم الاستثمارات الأجنبية لتوجيهها نحو قطاعات تخدم التنمية المستدامة.

المقومات الإيجابية للسوق السورية

رغم التحديات، تمتلك سوريا مقومات إيجابية يمكن أن تدعم عملية التنمية. يتمتع سوق العمل السوري بسمعة جيدة من حيث احترام قيمة العمل وجودة الإنتاج، خاصة في القطاعات الخدمية والمهنية. هذه العوامل تمثل أساسًا يمكن البناء عليه، بشرط توفير السياسات الداعمة التي تحقق توازنًا بين تحرير السوق والحفاظ على القطاعات الإنتاجية المحلية.

بالتالي، يجب أن يكون تبني نموذج السوق الحرة جزءًا من استراتيجية شاملة تراعي خصوصيات الاقتصاد السوري وتركز على تحقيق تنمية مستدامة وعدالة اجتماعية، لتجنب الوقوع في فخ التحول إلى اقتصاد استهلاكي هش.

تصحيح التشوهات الاقتصادية في سوريا

عانت البيئة الاقتصادية السورية خلال عقود حكم نظام الأسد من تشوهات عميقة بسبب سياسات التمييز والمحسوبية. كانت الدولة تسيطر على معظم النشاط الإنتاجي، بينما مُنح القطاع الخاص هامشًا محدودًا للعمل، غالبًا ضمن "قاعدة العطاء مقابل الولاء"، التي استفاد منها فقط الموالون للنظام. نتيجة لذلك، عانى القطاع الخاص من ضعف شديد في قدراته التمويلية والبنيوية.

على سبيل المثال، تشير بيانات البنك الدولي إلى أن نسبة الائتمان الممنوح للقطاع الخاص السوري في عام 2010 لم تتجاوز 20% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ36% في مصر خلال العام نفسه. هذا العجز في التمويل يعكس اختلالات هيكلية كبيرة في الاقتصاد السوري، مما يتطلب إعادة هيكلة جذرية لضمان تمكين القطاع الخاص من العمل بفعالية.

تجنب رأسمالية متوحشة

مع انتقال سوريا إلى تبني اقتصاد السوق الحرة، تبرز الحاجة إلى تصحيح التشوهات الاقتصادية بحذر، لتجنب الوقوع في فخ رأسمالية متوحشة تحت ذريعة تحرير الاقتصاد. من الضروري أن تكون السياسات الاقتصادية متوازنة، بحيث تدعم الفئات الأكثر تضررًا وتعمل على تحقيق عدالة في توزيع الموارد.

على سبيل المثال، خلال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، قدمت الحكومة الأميركية دعمًا ماليًا بلغ 14 مليار دولار للمزارعين المتضررين. هذا النوع من التدخل يُظهر كيف يمكن للدولة أن تلعب دورًا في حماية الفئات المتضررة حتى في اقتصادات السوق الحرة.

بناء قطاع خاص قوي ومؤهل

إعادة بناء القطاع الخاص السوري ليكون قادرًا على المنافسة في السوق الحرة والاندماج في الاقتصاد العالمي يعد تحديًا كبيرًا وضرورة ملحة. لتحقيق ذلك، تحتاج سوريا إلى وقت واستراتيجيات تهدف إلى بناء كيانات اقتصادية متوسطة وكبيرة قادرة على المنافسة عالميًا. هذه الكيانات يمكن أن تشكل العمود الفقري للاقتصاد، بينما ترتبط بها الكيانات الصغيرة ومتناهية الصغر، خاصة في المجالات الصناعية والإنتاجية، لتعزز من تكامل النظام الاقتصادي.

دور الحكومة في التصحيح والتنمية

الحكومة السورية الحالية، أو أي حكومة مستقبلية، تتحمل مسؤولية وضع سياسات شاملة لتصحيح المسار الاقتصادي. يجب أن تتضمن هذه السياسات:

  1. إصلاح النظام المالي: توسيع نطاق الائتمان الممنوح للقطاع الخاص، مع التركيز على القطاعات الإنتاجية.
  2. دعم الكيانات الصغيرة والمتوسطة: توفير حوافز مالية وضمان بيئة تشريعية تدعم ارتباطها بالكيانات الأكبر.
  3. تعزيز الشفافية والمساءلة: الحد من المحسوبية وتعزيز المنافسة العادلة في السوق.
  4. الاستثمار في البنية التحتية الاقتصادية: تحسين الخدمات اللوجستية، وتطوير أنظمة التعليم والتدريب المهني لرفع كفاءة اليد العاملة.

وبالتالي فإن الانتقال إلى اقتصاد السوق الحرة في سوريا يجب أن يكون جزءًا من خطة شاملة لإعادة بناء الاقتصاد، بما يعزز العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. القطاع الخاص السوري لديه الإمكانات ليكون شريكًا رئيسيًا في تحقيق هذه الرؤية، شرط توفير بيئة ملائمة تزيل القيود السابقة، وتفتح المجال للإبداع والابتكار.

النظام المختلط: حل توافقي للمرحلة الانتقالية

بالنظر إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه سوريا، حتى في حال تحقيق استقرار سياسي وأمني، يتوقع أن تحتاج البلاد لعقد كامل على الأقل لتحقيق نهضة اقتصادية ملموسة. خلال هذه الفترة، يبدو أن تبني نظام اقتصادي مختلط يمثل الخيار الأمثل، حيث يجمع بين دور القطاعين العام والخاص، مع الحفاظ على التوازن بينهما لتحقيق التنمية المستدامة.

يمكن أن يسهم القطاع العام، إذا عمل وفق أسس اقتصادية مدروسة، في تحقيق توازن داخل السوق. وجود القطاع العام كمنافس قوي يحد من احتمالات احتكار القطاع الخاص للسوق، مما يمنع فرض أنماط معينة على المستهلكين ويحافظ على تنوع الخيارات المتاحة لهم. يجب أن يتم تسيير القطاع العام بأسلوب يعزز كفاءته، بعيدًا عن البيروقراطية المعيقة أو سياسات الإهدار التي ميزت حقب سابقة.

على الجانب الآخر، يحتاج القطاع الخاص إلى دعم لتمكينه من لعب دور محوري في النشاط الاقتصادي. يشمل ذلك تقديم حوافز للاستثمار، وتوفير بيئة قانونية وتنظيمية مشجعة، وفتح المجال أمامه للتوسع في القطاعات الإنتاجية والخدمية. من شأن هذا التوجه أن يزيد من قدرة القطاع الخاص على المنافسة محليًا ودوليًا، ويعزز من فرص العمل والتنمية الاقتصادية.

تبني نموذج الرأسمالية الاجتماعية

في حال التوجه نحو تبني اقتصاد السوق الحر، يمكن لسوريا أن تستفيد من نموذج "الرأسمالية الاجتماعية"، وهو نموذج يجمع بين حرية السوق وحماية الحقوق الاجتماعية. يتمثل هذا النموذج في ضمان تحقيق توازن مجتمعي من خلال:

  1. الضرائب التصاعدية: فرض ضرائب تتزايد نسبتها مع ارتفاع الأرباح، ما يساهم في تقليل الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
  2. منع الاحتكار: تطبيق قوانين صارمة لمنع احتكار الشركات الكبرى للموارد أو السوق.
  3. تنظيم المنافسة: وضع قواعد تضمن منافسة عادلة بين الشركات، وتحمي المشروعات الصغيرة من التلاشي أمام الكيانات الكبيرة.
  4. تشريعات ضد تضارب المصالح: سن قوانين تمنع استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب خاصة، وضمان الشفافية في إدارة النشاط الاقتصادي.

الطريق نحو توازن اقتصادي

النظام المختلط والرأسمالية الاجتماعية يمثلان أساسًا مرنًا يمكن أن يُبنى عليه اقتصاد سوريا في المرحلة الانتقالية. يتيح هذا النظام الجمع بين كفاءة السوق الحرة وضمان تحقيق العدالة الاجتماعية، مع استثمار الإمكانات المحلية والبشرية لتعزيز التنمية. تبني هذه الهوية الاقتصادية يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو تحقيق اقتصاد متوازن ومستدام يعيد لسوريا مكانتها الاقتصادية إقليميًا ودوليًا.

شارك رأيك بتعليق

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
Mofid Omari
3 أيام

اللهم احمي بلدنا وحفظ كل من يريد الخير لسوريا وشعبها.
اللهم ايد قاداتنا بنصر من عندك.
امين.

مقالات متعلقة: