مع غياب البيانات الدقيقة حول الوضع التمويلي في سوريا، تفرض المرحلة المقبلة، عقب نجاح الثورة السورية في إسقاط نظام "بشار الأسد"، تحديات وأعباء تمويلية ضخمة. يأتي ذلك بعد 13 عامًا من التدهور الشديد في الخدمات العامة وغياب دور الدولة عن القيام بالتزاماتها الاجتماعية والاقتصادية في العديد من المناطق السورية.
تتجلى الأزمة التمويلية بوضوح بعد سقوط نظام "الأسد"، كما ورد في تصريحات رئيس حكومة تصريف الأعمال "محمد البشير"، الذي أشار إلى أن سوريا تعاني حاليًا من انعدام النقد الأجنبي، وأن ما يتوفر لديها فقط هو العملة المحلية التي أصبحت بلا قيمة. كما أكد أن الأسد خلّف وراءه إرثًا كارثيًا من الفساد الإداري، مما أسفر عن وضع مالي متدهور للغاية.
ويمكن أن تُستشف من هذه التصريحات حالة الانكشاف المالي التي تعاني منها سوريا، حيث فشل الأسد في إدارة الاقتصاد الوطني أو الأوضاع المالية على مدار السنوات الماضية. ويشمل هذا الفشل تراجعًا في حركة التجارة السلعية وانهيار قطاع السياحة، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية.
وكان اعتماد الأسد الأساسي خلال هذه الفترة على المعونات والمساعدات الخارجية، وهو ما يؤكده الحدث الأخير الذي يشير إلى عودة سفينة محملة بالنفط الإيراني أدراجها عبر البحر الأحمر، فور الإعلان عن سقوط نظام الأسد، ما يعكس مدى هشاشة الاعتماد على الدعم الخارجي في تمويل البلاد.
عينة من الفساد وما خفي أعظم:
في الوقت الذي كانت فيه سوريا تواجه واحدة من أعنف الكوارث الطبيعية المتمثلة في الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد، كشفت الوثائق الصادرة عن الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد عن استغلال فاضح للمساعدات الدولية.
وفقًا للوثيقة الصادرة عن شعبة المخابرات العسكرية – الفرع 235، والمؤرخة في 9 فبراير/ شباط 2023، صدرت أوامر إلى الفرع 227 للإشراف المباشر على استقبال المساعدات الإنسانية الدولية القادمة عبر مطار دمشق الدولي. واللافت في هذا التوجيه أن المساعدات لم تُوجه كما هو متوقع نحو المتضررين والمنكوبين، بل تم نقلها إلى مستودعات ومخازن الدولة بهدف طرحها في الأسواق بشكل تجاري لصالح خزينة النظام.
فبينما كان السوريون يواجهون مصيرًا مأساويًا تحت الأنقاض وفقدان المأوى والغذاء، قامت الأجهزة التابعة للنظام بتوجيه المساعدات الدولية نحو أغراض ربحية على حساب المنكوبين.
وهذا السلوك يعد استمرارًا للنهج الذي اتبعه نظام الأسد في تسييس المساعدات الإنسانية واستغلالها لتعزيز نفوذه الاقتصادي والسياسي.
ولا يخفى على أحد أن نظام الأسد عمل خلال سنوات الحرب على احتكار المساعدات الإنسانية وحرمان الشعب منها، في الوقت الذي كانت فيه هذه المساعدات حقًا إنسانيًا لكل المتضررين.
وتأتي هذه الوثيقة لتؤكد أن النظام لم يكتفِ بحرمان الشعب من المساعدات، بل تجاوز ذلك إلى بيع المساعدات في الأسواق لتحقيق مكاسب مالية.
سوريا لا تفتقر للموارد:
يبلغ عدد سكان سوريا أكثر من 23 مليون نسمة، وهو رقم يشمل من هاجروا خارج البلاد نتيجة ممارسات نظام الأسد، التي شملت التعذيب والقتل. وتبلغ المساحة الجغرافية لسوريا نحو 185 ألف كيلومتر مربع.
يتميز الاقتصاد السوري بتنوع قطاعاته بين الزراعة، الصناعة، والخدمات. وقبل اندلاع الثورة في عام 2011، كانت سوريا تتمتع بالاكتفاء الذاتي في العديد من السلع الأساسية، على الرغم من افتقارها للتكنولوجيا الحديثة بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة.
غير أن سياسات نظام الأسد ضد المناطق الثائرة عليه، وما صاحبها من عنف وقمع دموي للمتظاهرين، كان لها تأثيرات اقتصادية واجتماعية كارثية. فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 61.3 مليار دولار في عام 2010 إلى 7.4 مليارات دولار في عام 2023، بحسب بيانات البنك الدولي. هذا التراجع أدى إلى انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 2748 دولارًا في 2010 إلى نحو 300 دولار فقط في 2023.
ومع بروز مرحلة جديدة بعد انتهاء حقبة الأسد، هناك فرصة لإعادة بناء الاقتصاد السوري. فإذا استطاعت الإدارة الجديدة تثبيت الأمن، وإعادة تشغيل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وتحسين المرافق العامة والبنية التحتية، فإن التقديرات تشير إلى إمكانية ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي إلى 20 مليار دولار أو أكثر بحلول عام 2025.
هذه الخطوات تتطلب جهودًا مكثفة لإعادة الإنتاجية إلى مستوياتها السابقة، وتفعيل القطاعات الرئيسية للاقتصاد، ما قد يسهم في تحسين مستويات المعيشة للسكان، وعودة سوريا إلى مسار النمو الاقتصادي.
تحديات ستواجهها حكومة ما بعد الثورة:
من المتوقع أن تواجه حكومة ما بعد الثورة في سوريا تحديات كبيرة فيما يتعلق بالدعم الاجتماعي، والذي كان جزءًا رئيسيًا من الموازنة العامة للدولة.
لذلك فيُفترض بحكومة تصريف الأعمال إعداد موازنة مرنة لفترة عملها التي تنتهي بحلول مارس/آذار 2025، بحيث تشمل:
- النفقات الحتمية كرواتب وأجور.
- الدعم الاجتماعي للأسر والقطاعات الأساسية.
- تسيير جوانب النشاط الاقتصادي.
- تخصيص الموارد لإعادة ترميم منازل النازحين والمهجّرين من خلال لجان تقويم.
- إصلاحات مالية مطلوبة
ويرى الخبراء أنه لتحقيق أداء تمويلي أفضل، ينبغي على الحكومة ما يلي:
- دمج المؤسسات العامة التي أُنشئت خارج سيطرة النظام السابق، خاصة المالية والاقتصادية، لتحقيق وحدة الإيرادات والنفقات.
- إدارة المساعدات الدولية وفق خريطة واضحة للاحتياجات الأساسية وضمان العدالة في توزيعها. إن تعذّر الإشراف المباشر، تُفوض إلى مؤسسات المجتمع الأهلي تحت إشراف الدولة.
- تنقية الأجهزة الحكومية من المسؤولين الفاسدين والمرتشين، مع وضع شبكة معلومات مركزية لرصد تحصيل الإيرادات العامة وترشيد الإنفاق.
- إعفاءات جمركية على السلع الضرورية للدولة والأفراد، وزيادة الرسوم على السلع الترفيهية لتكون مصدرًا إضافيًا لموازنة الدولة.
إحياء قطاع السياحة:
يمكن للحكومة الجديدة أن تستثمر في قطاع السياحة لما له من مقومات اقتصادية كبيرة، فسوريا تمتلك مقومات سياحية طبيعية وتاريخية، أُضيف إليها مواقع جديدة مرتبطة بالثورة مثل قصور الأسد وأركان نظامه، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه "سياحة الثورة".
وقطاع السياحة يرتبط بأكثر من 90 نشاطًا اقتصاديًا، مما يُسهم في:
- إنعاش الناتج المحلي.
- توفير فرص عمل جديدة.
- جلب العملات الأجنبية.
وينبغي التخطيط مبكرًا لضمان اعتماد قطاع السياحة على الموارد والمنتجات المحلية لتوفير فوائد اقتصادية مستدامة.
لا وجود لعصا سحرية:
من الصعب توقع نهوض سوريا من أزمتها العميقة متعددة الأبعاد في وقت قصير، خاصة وأن آثار الدمار طالت الموارد البشرية والطبيعية والبنية التحتية على حد سواء.
وفي هذا السياق، حرص القائد "أحمد الشرع"، على إرسال رسائل طمأنة إلى المجتمعين المحلي والدولي، مؤكداً أن أولويات الإدارة الجديدة تتمثل في إعادة بناء البلاد، مع الابتعاد عن الدخول في أي نزاعات أو حروب.
ولا شك أن الاستقرار السياسي والأمني يشكل الأساس الذي ستُبنى عليه نجاحات سوريا في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا يجب أن تكون هذه المهمة على رأس أولويات حكومة تصريف الأعمال، وكذلك الحكومات المقبلة.
رغم ذلك، لا يزال المجتمع الدولي يتعامل مع الثورة السورية بقدر من الضبابية، ما يضع الثوار أمام تحديات تشمل مطامع خارجية ومحاولات فرض النفوذ، التي قد تهدف إلى إضعاف مشروع النهوض الوطني السوري أو استغلاله لتحقيق أجندات خاصة.
وفي الوقت الذي تسعى فيه سوريا الجديدة إلى استعادة مكانتها ضمن المجتمع الدولي على المستويين السياسي والاقتصادي، ورفع العقوبات المفروضة عليها، يجب أن تأخذ القيادة السورية في الاعتبار خصوصية الوضع الحالي، كونها دولة خرجت من حرب طاحنة استمرت 13 عامًا، وتتطلب جهودًا هائلة لإعادة البناء والنهوض بالبلاد.