
منذ سقوط نظام "بشار الأسد" في ديسمبر/كانون الأول 2024، دخلت سوريا مرحلة سياسية جديدة، إلا أن الواقع الاقتصادي لا يزال يعيش على وقع الانقسامات السابقة. فقد برز انقسام نقدي واضح بين المناطق التي تعتمد الليرة التركية كعملة رئيسية، مثل إدلب وشمال حلب، وتلك التي ما زالت تتعامل بالليرة السورية، وتشمل دمشق، حمص، اللاذقية، طرطوس، مدينة حلب، أجزاء من ريف دمشق، والمناطق الوسطى والجنوبية.
هذا الانقسام النقدي لا يعكس فقط واقعًا ماليًا، بل يُجسد أيضًا افتقار البلاد إلى رؤية اقتصادية موحدة بعد التغيير السياسي. فقد تسبب في مشكلات عميقة تتراوح بين ظهور الأسواق السوداء، وتفاوت الأسعار بين المناطق، والاستغلال التجاري، وكلها عوامل تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين، بحسب ما يؤكده مراقبون اقتصاديون.
جذور الانقسام النقدي
بدأت مناطق الشمال السوري بالاعتماد على الليرة التركية منذ عام 2020، بعد الانهيار المتسارع في قيمة الليرة السورية. ومع استمرار هذا المسار، استُبعدت العملة المحلية تدريجيًا لصالح التركية، لا سيما في إدلب، عفرين، اعزاز وشمال حلب. في المقابل، بقيت الليرة السورية العملة الرسمية في المناطق الخاضعة سابقًا لسيطرة النظام، رغم ضعفها المزمن.
ومن المفارقات أن الليرة السورية شهدت تحسنًا نسبيًا في النصف الأول من عام 2025، حيث ارتفع سعر صرفها من 16,000 ليرة مقابل الدولار إلى حوالي 9,300 – 9,450 ليرة، ويُعزى هذا التحسن إلى رفع جزئي لبعض العقوبات الغربية، بالإضافة إلى تدفقات محدودة من المساعدات الخارجية.
تباين اقتصادي يُعمّق الفجوة
الانقسام النقدي يُعيق التجارة الداخلية بشكل واضح. ففي الشمال، يرفض العديد من التجار قبول الليرة السورية، خوفًا من تقلباتها الحادة، بينما يصرّ تجار دمشق والمناطق الجنوبية على التعامل بالليرة السورية، ويرفضون التركية، التي باتت نادرة التداول في هذه المناطق.
ووفق ما صرّح به المواطن "أيهم نجمة"، أحد سكان مدينة حماة، فإن الأسعار بين المناطق تشهد تفاوتًا لافتًا. فربطة الخبز في إدلب تُباع بما يتراوح بين 5 و7 ليرات تركية (نحو 0.15 – 0.20 دولار)، في حين تُكلف في دمشق ما بين 2000 و3000 ليرة سورية (0.20 – 0.30 دولار). أما لتر البنزين، فيُباع في الشمال بـ25–30 ليرة تركية (0.75 – 0.90 دولار)، بينما يتجاوز في دمشق 10,000 ليرة سورية (أكثر من دولار واحد).
وأوضح "نجمة" أن أسعار الأدوية كذلك أقل نسبيًا في الشمال، بسبب الاستيراد المباشر من تركيا، بينما قد تصل تكلفة علبة دواء واحدة في دمشق إلى 30,000 ليرة سورية (نحو 3 دولارات). هذه التفاوتات دفعت إلى ازدهار أسواق سوداء على الحدود، حيث يستغل السماسرة تذبذب أسعار الصرف لفرض رسوم مبالغ فيها، مما يعمّق الفوضى النقدية ويقوّض الثقة في أي مساعٍ لجذب الاستثمار.
تجار يفرضون عملات وأسعارًا
ويقول "نجمة" إن بعض التجار في إدلب بدأوا بتسعير سلعهم بالدولار الأميركي، لكنهم يفرضون على الزبائن الدفع بالليرة التركية وفق سعر صرف مبالغ فيه. وفي دمشق، يرفض عدد من التجار خفض أسعارهم رغم التحسن الأخير في قيمة الليرة السورية، وهو ما يراه كثيرون شكلاً من أشكال الاستغلال التجاري.
أما على مستوى الدخل، فلا تزال الأجور في مناطق الجنوب منخفضة للغاية. إذ يبلغ متوسط راتب الموظف الحكومي في دمشق نحو 280,000 ليرة سورية شهريًا (حوالي 30 دولارًا)، وهو مبلغ لا يغطي أكثر من 2% من تكاليف المعيشة الأساسية. وتعتمد شريحة واسعة من السكان على الحوالات الخارجية، لكن قيمتها تتآكل بسبب التضخم وتكاليف التحويل وأسعار الصرف.
العملة الواحدة.. حلم مؤجل
يحكي المواطن "أيمن الحداد" أنه انتقل من إدلب إلى ريف دمشق حاملًا معه قطعًا نقدية من الليرة التركية، لكنه فوجئ برفض محال الصرافة التعامل بها. وقال إن أحد الصرافين قبل شراء العملة التركية منه، لكنه حسب كل ليرة بـ280 ليرة سورية فقط، رغم أن سعرها الحقيقي كان 350. وعزا ذلك إلى ما وصفه بـ"هامش الربح" بسبب قلة التعامل بالليرة التركية في المنطقة.
ويتابع "الحداد" أنه اضطر لدفع ثمن وجبة دجاج في دمشق بما يعادل ثلاثة أضعاف سعرها في إدلب، لأن البائع لم يقبل العملة التركية إلا بعد مساومة طويلة، معتبرًا ذلك شكلًا من أشكال "الاستغلال الذي يجب أن ينتهي".
الواقع النقدي الجديد.. إلى أين؟
الانقسام النقدي في سوريا ما بعد الأسد ليس مجرد خلاف حول العملة، بل هو تحدٍّ يمسّ الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للدولة الناشئة. وفي ظل غياب سياسة مالية موحدة، وتعدد مواقف السلطات المحلية، وتباين قنوات الاستيراد والتصدير، يصبح توحيد العملة الوطنية ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل.
تشير تجارب دول ما بعد النزاعات، مثل ليبيا واليمن، إلى أن توحيد النظام النقدي يعدّ من أولى الخطوات نحو استعادة التماسك الاقتصادي، لكنه يحتاج إلى توافق سياسي، ودعم خارجي، وتحديث للبنية المصرفية.
ومع بدء بعض الجهات الدولية، كالاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقديم استشارات فنية للحكومة السورية الجديدة، يبقى التحدي الأكبر هو التوفيق بين الواقع الاقتصادي المتشظي، وطموحات إعادة الإعمار والوحدة الوطنية.
موقف حكومي: تنظيم متأخر لقطاع الصرافة
في ظل الفوضى النقدية التي تلت سقوط النظام السابق، أكد مصدر حكومي في "مؤسسة النقد السورية" أن بعض محال الصرافة استغلوا غياب الرقابة، وشرعوا بتصريف العملات بهوامش ربح مرتفعة قبل تفعيل عمل المؤسسات المالية الجديدة.
وقال المصدر، في حديث خاص لموقع الجزيرة نت، إن الحكومة الانتقالية بدأت بإجراءات تنظيمية شاملة تضمنت إصدار تراخيص رسمية لمحال الصرافة، وربطها بمبالغ تأمين تهدف إلى حماية ودائع الزبائن. كما فرضت وضع شاشات رقمية في كل مركز صرف، تُعرض فيها أسعار البيع والشراء بشكل مباشر وشفاف للزبائن.
وأضاف: "لا يحق لأي محل صرف فرض هامش ربح خارج النطاق المسموح، وإذا أخلّ بأي من القواعد التنظيمية، يحق للزبون تقديم شكوى رسمية ضده"، مشددًا على أهمية التبليغ الفوري عن أي تجاوزات لضبط السوق تدريجيًا.
رؤية تحليلية: انقسام نقدي يهدد التماسك الاقتصادي
من جانبه، أوضح الباحث الاقتصادي "عبد العظيم المغربل" أن التحول إلى الليرة التركية في الشمال السوري لم يكن قرارًا سياسيًا بقدر ما كان ضرورة اقتصادية فرضها انهيار الليرة السورية، وارتفاع مستويات التضخم، وغياب أي استقرار مالي في تلك المرحلة، إضافة إلى الروابط التجارية العميقة مع تركيا.
وقال "المغربل"، في حديث لـ الجزيرة نت: "نتج عن هذا الانقسام النقدي تشظي السوق السورية، وصعوبات كبيرة في حركة البضائع ورأس المال بين المناطق. وقد أوجد بيئات اقتصادية مختلفة داخل البلاد، مما قلّل من فرص التكامل الاقتصادي وأضعف إمكانات النمو الشامل".
وحذّر من أن استمرار هذا الوضع قد يقود إلى انقسام اقتصادي دائم، في حال تطورت المؤسسات النقدية المحلية في كل منطقة إلى كيانات منفصلة، مؤكدًا أن هذه الإجراءات التي بدأت كحلول مؤقتة، يجب ألا تتحول إلى واقع دائم.
وأشار إلى أن اختلاف سعر الصرف بين الليرتين السورية والتركية يؤدي إلى تفاوتات حادة في القوة الشرائية؛ فبينما يتأثر الشمال بتقلبات الليرة التركية مقابل الدولار، يعاني الجنوب من تضخم مزمن أضعف قيمة الليرة السورية وأثّر بشكل مباشر على معيشة السكان.
وأضاف: "غياب الرقابة الاقتصادية على المستوى الوطني ساهم في تفشي السوق السوداء. في الشمال تنتشر مكاتب صرف غير مرخصة، بينما يُهيمن سماسرة محليون على سوق العملات في الجنوب، مستفيدين من الفوضى لتحقيق أرباح سريعة على حساب الاستقرار العام".
وأشار أيضًا إلى أن هناك تجارًا "يفرضون استخدام الليرة التركية أو الدولار في تعاملاتهم، لتجنب تذبذب الليرة السورية"، داعيًا إلى ضبط هذه الظواهر من خلال تنظيم السوق وتكثيف الرقابة القانونية.
مقترحات لتوحيد السياسة النقدية
وحول سبل الخروج من الأزمة النقدية، يرى "عبد العظيم المغربل" أن توحيد السياسة النقدية والعودة إلى استخدام الليرة السورية كعملة وطنية موحدة هو الطريق الأكثر واقعية لتحقيق الاستقرار. وأضاف: "لدينا مؤشرات أولية توحي بإمكانية تحقيق ذلك في المستقبل القريب، شريطة توفر الإرادة السياسية وتعاون المؤسسات الاقتصادية".
وأكد "المغربل" أن بناء وحدة اقتصادية فعّالة يتطلب تحقيق أربعة شروط أساسية:
- ضمان استقرار الليرة السورية عبر تعزيز الاحتياطي النقدي وإدارة السياسة النقدية بحكمة.
- بناء مؤسسات مالية شفافة قادرة على كسب ثقة المواطنين والمستثمرين.
- توحيد الأنظمة الضريبية والجمركية لتقليص الفوضى الإدارية وضمان عدالة اقتصادية.
- إعادة الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين من خلال برامج إصلاحية وحملات توعية تدعم العودة إلى التعامل بالعملة الوطنية.
ويتفق معه الباحث الاقتصادي "أسامة العبد الله"، الذي شدد على ضرورة التركيز على استعادة الثقة بالليرة السورية كأداة نقدية جامعة. وأضاف في تصريح لـ الجزيرة نت: "دعم استقرار العملة الوطنية يجب أن يشمل أيضًا مكافحة السوق السوداء، وضبط مكاتب الصرف غير المرخصة، وإنشاء هيئات مالية مستقلة لضمان الشفافية".
وأكد "العبد الله" أن إصلاح النظام المالي يتطلب أيضًا توحيد السياسات الضريبية بما يُحقق عدالة اقتصادية ويعزز التكامل بين مختلف المناطق السورية، داعيًا إلى تعزيز التواصل بين الحكومة والفاعلين الاقتصاديين لضمان الالتزام العام.
الليرة التركية: نفوذ اقتصادي أم عبء سياسي؟
وفي سياق متصل، يرى "أسامة سليم"، الذي يعمل ضمن إحدى المنظمات الدولية، أن استمرار التعامل بالليرة التركية في شمال سوريا لا يخلو من تعقيدات. وقال في حديث لـ الجزيرة نت: "الليرة التركية تُدرّ أرباحًا كبيرة، إذ يتم تداول مئات ملايين الدولارات سنويًا في شمال سوريا، وتحويلها إلى الليرة التركية، ثم لاحقًا إلى السورية".
وأوضح أن الدعم الأوروبي لمشاريع المنظمات الدولية يُموّل غالبًا بالدولار، ويتم إيداعه في البنوك التركية، ثم يُصرف لاحقًا داخل سوريا بالليرة التركية. وهو ما يعزز وجودها في السوق، ويمنحها نوعًا من "الشرعية الاقتصادية"، حتى وإن كانت مؤقتة.
واختتم "سليم" بالقول: "رغم أهمية توحيد العملة، إلا أن فكرة الاستغناء عن الليرة التركية في هذه المرحلة قد تُقابل برفض شعبي وتُجّاري، خاصة مع ما توفره من استقرار نسبي مقارنة بالسورية".