استيراد بلا ضوابط… سوق السيارات في سوريا في فوضى عارمة

23/04/2025

ليست عشرات الأسواق فقط، بل مئات، تلك التي ظهرت في سوريا لتجارة السيارات المستعملة. فالشوارع والساحات العامة في المدن السورية تحولت إلى أسواق مفتوحة على كافة الاحتمالات، مدفوعة برغبة عارمة لدى المواطنين في امتلاك سيارة، بعد سنوات طويلة من القيود والإجراءات المعقدة التي فرضتها سياسة النظام القائمة على الثلاثية الشهيرة: "منع، قيد، حصر".

ومع القرار الأخير الصادر عن وزارة النقل مطلع العام الحالي، والذي يسمح باستيراد جميع أنواع السيارات دون شروط بيئية أو فنية دقيقة، باستثناء شرط واحد فقط يتمثل بألا يكون قد مضى على تصنيع السيارة أكثر من 15 عاماً، فقد انفتحت أبواب السوق السورية أمام سيارات من مختلف دول العالم، دون أي اعتبار لبلد المنشأ أو حالة السيارات الفنية، أو حتى مستوى السلامة العامة، ما يهدد بتحويل شوارع البلاد إلى مقابر متحركة نتيجة تقادم السيارات وضعف البنية التحتية.

هذا القرار، الذي بررته الحكومة بحاجتها الماسة إلى تحصيل عوائد جمركية تعالج بها العجز المتفاقم في الموازنة، جاء مصحوباً بتخفيض كبير في الرسوم الجمركية وصل إلى نحو 80%، ما أثار علامات استفهام حول جدواه الاقتصادية، مقارنةً بالأضرار الجسيمة التي قد يخلفها، سواء على مستوى سلامة المواطنين، أو على استنزاف العملة الأجنبية في البلاد.

بالتزامن مع هذه الإجراءات، تشهد سوريا تدفقاً كبيراً للسيارات المستعملة من أوروبا والخليج والولايات المتحدة ودول شرق آسيا، حيث وجدت الأسواق السورية بيئة خصبة لتصريف ما تم استبعاده في بلدانها الأصلية بسبب عدم تلبيتها لمعايير الأمان أو البيئة، أو نتيجةً للتوجه نحو السيارات الكهربائية والحديثة. هذا الواقع يزيد من حدة الفوضى، ويفاقم مشكلات التسعير العشوائي، في ظل غياب واضح لأي ضوابط أو معايير تنظيمية تحكم حركة البيع والشراء.

ووسط هذه الفوضى، تتضح حقيقة ضياع فرصة ثمينة كان من الممكن استثمارها في تطوير منظومة نقل عامة حديثة، أو توجيه عائدات الجمارك لاستثمارها في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة، أو حتى لتحسين مستويات الدخل وتفعيل عجلة الاقتصاد والإنتاج.

وهكذا فقد باتت أسواق السيارات السورية ليست سوى فوضى منظمة؛ فوضى في الاستيراد، وفوضى في التسعير، وفوضى في التخطيط، يدفع ثمنها المواطن السوري أولاً وأخيراً.

سوريا تتحول إلى مكب سيارات لدول أخرى:

حين تُفتح الحدود السورية أمام سياراتٍ مضى على تصنيعها 15 عاماً، فهذا القرار يحمل تداعيات ستظهر سريعاً عبر زيادة الحوادث، وتدهور الحالة الفنية للمركبات، وارتفاع نسبة التلوث، فضلاً عن زيادة استهلاك الوقود في بلدٍ يفتقر إلى أبسط معايير السلامة البيئية والبنى التحتية الملائمة.

بل إن الأمر يصبح أكثر خطورة مع الحديث عن آلاف المركبات المصنعة في عامي 2007 و2008، أو ما يُعرف بالسيارات "المقصوصة" أو "الغارقة"، وهي سيارات ذات مستوى أمان وجودة منخفضة للغاية، دخلت البلاد من البحر أو عبر شمال سوريا، وربما من دول مثل الإمارات أو من أسواق مجاورة أخرى عبر معبر نصيب، لتجد في السوق السورية مكاناً لها بدلاً من معامل إعادة تدوير المعادن في بلدانها الأصلية.

وبعيداً عن وصف المشهد بـ "المرعب"، تبرز تساؤلات ضرورية حول الحجم الهائل من النقد الأجنبي الذي خرج وسيخرج من البلاد لتمويل هذه العمليات من الاستيراد المفتوح، دون قيود أو شروط واضحة. فما هو الأثر الحقيقي لهذا النزيف المالي على الاقتصاد السوري، في وقت كان يمكن توجيه هذه الأموال إلى قطاعات أكثر أهمية وإنتاجية؟ وكيف سيؤثر ذلك على سعر صرف الليرة السورية، التي فقدت الكثير من قيمتها بسبب استمرار استنزاف الدولار بهذه الطريقة؟

كما أن الاعتقاد بأن مالك السيارة وحده من يتحمل تكلفتها هو أمر خاطئ تماماً، فكل السوريين سيدفعون الثمن، سواء من خلال ارتفاع أسعار المنتجات نتيجة ارتفاع تكلفة النقل والوقود، أو عبر زيادة الطلب على العملات الأجنبية، مما سيؤدي إلى مزيد من انهيار العملة المحلية. كما أن الخزينة العامة للدولة ذاتها ستخسر كثيراً، بعد تخفيض الرسوم الجمركية والسماح بهذه الفوضى.

في الختام، قد يجادل كثيرون بأن من حق السوريين امتلاك سيارات بأسعار معقولة، والاستمتاع بشيء من الرفاهية بعد عقود طويلة من الحرمان والقيود الاقتصادية. ولعل في وجهة النظر هذه ما يستحق الاعتبار، شرط ألا تتحول هذه الرغبة إلى ذريعة تستنزف ما تبقى من موارد المواطنين، وتحوّل الشوارع السورية إلى مقابر ضخمة لسيارات العالم القديم.

هذا يعني أن من الضروري إعادة النظر سريعاً في شروط استيراد السيارات، سواء من ناحية سنة الصنع، أو المواصفات الفنية، أو بلد المنشأ، وإجراء تعديل عاجل على القرار الارتجالي السابق الذي اتخذته حكومة تصريف الأعمال السابقة. والمطلوب الآن إصدار قرار مدروس يضع رؤية واضحة ومستدامة لمنظومة النقل في سوريا، يحفظ سلامة المواطنين، ويحدّ من استهلاك الوقود والتلوث، ويعيد في الوقت نفسه حقوق الخزينة العامة التي ضاعت مع تخفيض الرسوم الجمركية.

ويبقى من الضروري التحذير من أن سياسة الباب المفتوح التي طالت قطاع السيارات قد تفتح مستقبلاً الباب واسعاً أمام استيراد الآلات والمعدات الصناعية المستعملة، بشروط قد تؤدي إلى تدمير الإنتاج والجودة في سوريا، لتتحول المصانع إلى ساحات للخردة، مثلما تحولت الشوارع اليوم إلى مستودعات ضخمة للسيارات الرديئة.

شارك رأيك بتعليق

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات متعلقة: