حدث أمران أعادا فتح ملف الفوسفات السوري الأسبوع الماضي، الأول بدء الإنتاج التجريبي من شركتي "المشاريع المائية" و"شركة البناء والتعمير" التابعة لوزارة الأشغال العامة والإسكان السورية، ضمن منطقة تخضع للاستثمار الروسي.
أما الثاني، فهو إعادة طرح إيران إحياء عقد استثمار الفوسفات، خلال التحضير لتوقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي طويلة الأمد، بين الحكومتين السورية والإيرانية.
وكان وزيرا الأشغال العامة والإسكان السوري "سهيل عبد اللطيف"، ووزير النفط والثروة المعدنية "بسام طعمة"، قد تفقدا الأسبوع الماضي سير العمل بمنجم "الأبتر" شرقي مدينة حمص وسط سورية، بعد تركيب كسارة الطبقات الصخرية التي تغطي الفوسفات، تحضيراً لبدء الإنتاج.
كما كشف المتخصص بالنفط والثروة المعدنية، "عبد القادر عبد الحميد"، في حديثه لصحيفة "العربي الجديد"، طرح طهران تفعيل الشركة الإيرانية السورية التي تأسست عام 2016، قبل أن يجمّد عملها، إثر دخول روسيا واستئثارها بقطاع الفوسفات، ما يثير التساؤل حول التكتم على الفوسفات السوري الذي يصل لدول أوروبا الغربية.
ويتفق الباحثون وتشير البيانات الرسمية إلى أن سورية بلغت المرتبة الخامسة عالمياً باحتياطي الفوسفات، وزادت صادراتها قبل عام 2011 عن 3.2 ملايين طن سنوياً.
سوريا... أهم بلدان العالم باحتياطي الفوسفات:
يصف المتخصص "عبد القادر عبد الحميد" سوريا بـ"أهم بلدان العالم باحتياطي الفوسفات"، مقدراً احتياطي البلد بنحو ثلاثة مليارات طن، ولم يتم استخراج أكثر من 0.17% من "الاحتياطي الهائل"، لأن الإنتاج لم يزد عن 3.5 ملايين طن سنوياً (المعروف أو المصرح به).
يذهب جزء من إنتاج سوريا للشركة العامة للأسمدة المحدثة بسورية منذ عام 1972(معمل الآزوتي بحمص)، ويصدر بين 3 و3.2 ملايين طن بين تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2011، قبل أن تتراجع كمية التصدير إلى أقل من مليون طن، من النوعين (مغسول رطب وجاف).
وسبق لوزير النفط والثروة المعدنية "بسام طعمة"، أن قدر، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، احتياطي سورية بنحو 3 مليارات طن.
كما كشف معاون مدير شركة الفوسفات والمناجم "بشير منصور"، أن صادرات بلاده من الفوسفات تراجعت إلى أقل من 100 ألف طن شهرياً، مضيفاً، خلال تصريحات سابقة، أن الاحتياطي الجيولوجي من الفوسفات الرطب القابل للاستثمار في مناجم فوسفات الشرقية ببادية تدمر يبلغ نحو مليار 800 مليون طن، وفي مناجم فوسفات خنيفيس نحو 150 مليون طن.
ثروة لم ينعم بها السوريون:
يقول الخبير "عبد الحميد" إن اقتراب الفوسفات من سطح الأرض (لا يزيد عن 12 متراً بموقعي الشرقية وخنيفيس) ميزة مهمة، كما أن احتواء الفوسفات السوري على 35% من خامس أكسيد الفوسفور ونسبة من الغازات المشعة، وليس اليورانيوم فقط، بل والثوريوم والموليبيديوم، تزيد من جودته وأهميته.
ويستدرك المختص السوري: "للأسف لم يتنعّم السوريون بعائدات هذه الثروة، إلى أن رأينا الصراع عليها، بين إيران وروسيا بعد الازمة، كما دخلت صربيا على كعكة الاستثمار بعقد بمنطقة شرقي مدينة تدمر".
إنتاج الفوسفات في سوريا أسرار دولة... الحقيقي أكبر بكثير:
من جهته، يشكك عضو اتحاد غرف التجارة السورية سابقاً "نبيه السيد علي"، بجميع أرقام النفط والفوسفات، لأن تلك الثروات، برأيه، كانت من "أسرار الدولة"، مشيراً إلى أن رقم إنتاج النفط المتداول كان 380 ألف برميل يومياً، في حين أن الحقيقي "أكبر وبكثير"، وكذا بالنسبة للفوسفات.
ويضيف "السيد علي"، للصحيفة أن "ثروات سورية كانت ممتلكات عائلية منذ السبعينيات حتى اليوم، ولم تنعكس الصادرات الكبيرة على سورية بناءً وتطويراً، أو على حياة السوريين رفاهيةً".
وشدد على أنه لم تنكشف تلك الثورات وعائداتها المسروقة عبر عقود إلا بعد الحرب، وقت خرجت معظم مناطق الإنتاج عن سيطرة الحكومة، فعرف السوريون حجم إنتاج بلادهم وأهميته.
تبدل سيطرة وعقود ارتهان:
يروي الباحث السوري "ياسر بدوي"، تبدل سيطرة القوى على مناطق إنتاج الفوسفات بعد الأزمة، إذ منذ منتصف عام 2015 سيطر تنظيم "داعش" على أهم وأكبر الحقول (خنيفيس والشرقية)، ليبقى الإنتاج متوقفاً لنحو عامين، إلى حين سيطرة ميليشيات إيرانية على المنطقة مطلع عام 2017 بما سميّ وقتذاك "عملية تحرير البادية"، رغم وصول قوات الحكومة لتدمر منذ مارس/ آذار 2016، حيث وضعت طهران يدها على المنجمين.
ويستدرك الباحث "بدوي" أن الحكومة وإيران كانا قد أسسا شركة مشتركة، منذ عام 2016، لاستخراج الفوسفات وتصديره، إلى إيران أولاً، للاستفادة من المواد المشعة ببرنامجها النووي، ولاسترداد الأموال التي قدمتها طهران للحكومة، "أهمها خطوط الائتمان".
وفي حين يشكك الباحث السوري بصحة ما قالته أوساط إيرانية وقتذاك من أن طهران استخرجت فوسفاتا بما يوازي قروضها لدمشق، لأن سيطرة القوات الإيرانية كانت لفترة وجيزة، إذ سرعان ما استعادت روسيا منطقة المناجم.
الفوسفات السوري... هدف بأولوية قصوى للروس:
يؤكد "البدوي" أن الفوسفات السوري من أهم أهداف روسيا في سورية، بل وسعيها للتفرد بالسيطرة على قطاع الطاقة، مذكراً بما قاله نائب رئيس الوزراء الروسي "ديمتري روغوزين"، عام 2017 من دمشق: "روسيا الوحيدة التي ستعمل في قطاع الطاقة وإعادة تأهيل منشآته" بل وركز المسؤول الروسي على أن في سورية "أكبر حقل فوسفات (يقصد خنيفيس والشرقية) يمكن الاستثمار فيه لمنتجات الأسمدة المطلوبة عالمياً".
ويضيف المتحدث أن روسيا، في مايو/أيار من عام 2017، سيطرت على كامل مواقع حقلي الشرقية وخنيفيس، مستندة على الاتفاق الذي وقعته مجموعة "ستروي ترانس غاز" مع الحكومة في أبريل/ نيسان من نفس العام، لتبدأ اتفاقية صيانة مواقع إنتاج الفوسفات واستخراجه ونقله، والتي تبعها في مارس/آذار 2018 اتفاقات عديدة بين موسكو ودمشق، نصت على استثمارات بقطاعات عدة، منها الكهرباء والصناعات التحويلية والكيميائية.
وكانت الحكومة قد صادقت، في أبريل/نيسان 2017، مع مجموعة "ستروي ترانس غاز" التي يقودها الملياردير "غينادي تيموشينكو" على اتفاقية، بين الشركة الروسية والمؤسسة السورية للفوسفات، لتنفيذ أعمال الصيانة اللازمة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل إلى مرفأ طرطوس للتصدير.
وصادق وقتها "مجلس الشعب" التابع على الاتفاقية التي نصت على تقاسم الإنتاج بمنجم الشرقية بين الطرفين، بحيث تكون حصة المؤسسة العامة للجيولوجيا نسبة 30% من كمية الإنتاج، مع دفع قيمة حق الدولة عن كميات الفوسفات المنتجة، إضافة لتحمل نفقات أخرى بحدود 2%، وتبلغ مدة العقد 50 عاما وبإنتاج سنوي قدره 2.2 مليون طن من قطاع يبلغ احتياطه الجيولوجي 105 ملايين طن.
تمويه عبر صربيا:
يتفق متخصصون على أن إعطاء الحكومة عقد استخراج وتصدير الفوسفات لشركة "وومكو أسوشيتس دوو" الصربية والتصديق عليه في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، إنما هو للتمويه أن القطاع ليس حكراً على روسيا.
كما أن صربيا قريبة ومقربة من موسكو، فضلاً عن أن منطقة الفوسفات التي منحت لصربيا، شرقي تدمير، مختلفة عن مناجم الشرقية التي منحت لروسيا، إذ يزيد عمق الفوسفات عن 60 متراً كما أنه يختلف عن فوسفات مناطق الروسي الخالي من الغبار والغني بالمواد المشعة.
وبرّر وزير النفط "طعمة"، العقد مع صربيا وقتذاك، بحاجة البلاد إلى تصدير الفوسفات وعوائده، خاصة مع وجود ثلاثة مليارات طن منه، متذرعاً بعجز التصدير نتيجة مقاطعة المنتج السوري.
لكن عضو غرف التجارة "نبيه السيد علي" دحض مقولة وزير النفط، لأن الفوسفات السوري يصدر أساسًا ولا تنص العقوبات عليه إطلاقاً، مشيراً لـ"العربي الجديد" إلى استمرار التصدير إلى لبنان وإيران، وإلى دول أوروبية عديدة، سواء بشكل مباشر أو عبر التفاف من لبنان.
أوروبا لها نصيب:
زادت كميات الفوسفات السوري المصدّر إلى دول أوروبية عدة بعد توقيع الشركة الروسية على الاستخراج والتصدير لنصف قرن.
وأشار تقرير صادر عن مجموعة من الصحافيين الاستقصائيين بقيادة "لايتهاوس ريبورتس" (Lighthouse Reports) و"مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد"، إلى أن دولا أوروبية تتلقى الفوسفات السوري من شركة روسية وسورية.
التقرير، الذي حمل عنوان "أوروبا تشتري فوسفاتا ملطخا بالدماء من سورية"، لفت إلى أن فوسفاتا بقيمة ملايين الدولارات صدرتها شركة روسية خاضعة للعقوبات في سورية شقت طريقها إلى أسواق الأسمدة الأوروبية منذ عام 2018.
وتمر سلسلة التوريد الغامضة هذه عبر شبكة معقدة، بما في ذلك شركة تسيطر عليها الأوليغارشية الروسية الخاضعة للعقوبات والمحسوبة على الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، والكيانات الحكومية السورية، وجميعهم يخضعون لعقوبات الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، إذ يتم تسهيل التجارة من قبل شركات الشحن المشبوهة والوسطاء والسماسرة.
ومن بين دول الاتحاد الأوروبي، بدأت إيطاليا الاستيراد في عام 2020، وبلغاريا في عام 2021، وإسبانيا وبولندا عام 2022، وفقًا لبيانات التجارة التي أشار لها الاستقصاء، وكانت صربيا وأوكرانيا من العملاء الرئيسيين أيضا، إذ استورد هذان البلدان أكثر من 80 مليون دولار من الفوسفات السوري منذ عام 2019.
وبحسب التقرير، نمت تجارة الفوسفات السوري بسرعة بعدما أدت الحرب في أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الأسمدة والفوسفات، وهو ما أسفر عن زيادة الطلب على الفوسفات السوري منخفض الثمن وعالي الجودة، والذي كان من بين أهم صادرات سورية قبل اندلاع النزاع عام 2011.
وتتم إدارة صفقات التصدير من قبل مؤسسات مرتبطة بشركة "ستروي ترانس غاز"، التي تعد عملاق البناء الروسي، وقد منحتها الحكومة السورية عقداً لإدارة واستثمار مرفأ طرطوس ومصانع الأسمدة التي تديرها، وامتياز استخراج الفوسفات من حقل رئيسي لمدة خمسين عاماً.
وتتم عملية البيع إلى أوروبا "خارج الرادارات"، إذ تعمل سفن الشحن على تعطيل أنظمة التتبّع الخاصة بها أثناء توجهها نحو سورية، ثم تعاود الظهور في طريقها إلى أوروبا لاحقاً، وفقاً للتحقيق الذي أشار إلى أن المبيعات الأوروبية تعزّز شبكة معقدة من الشركات الوهمية والوسطاء، بما في ذلك الشركة اللبنانية "مديترانيين" للبترول والشحن.