النهر الذي روى جنة عدن وسومر وبابل عبر التاريخ، يقف اليوم مصارعًا الموت، إذ يهدّد النشاط البشري الجائر والتغيّر المناخي بمحو شريان حياة عمره آلاف السنوات.
تبدأ قصة نهر دجلة في جبال كردستان عند تقاطع العراق وسوريا وتركيا، حيث يكسب السكان لقمة عيشهم من خلال زراعة البطاطا وتربية الأغنام، على الحدود مع سوريا، وقرب الحدود التركية.
في هذا الصدد، يقول "بيبو حسن دولماسا"، المنحدّر من قرية زراعية في منطقة فيشخابور، والبالغ 41 عاما، "حياتنا تعتمد على دجلة، عملنا وزراعتنا يعتمدان عليه".
ويضيف: "إذا انخفض منسوب المياه، ستتأثر زراعتنا ومنطقتنا بالكامل"، موضحًا أن "المياه تتناقص يوما بعد يوم، فمن قبل، كانت المياه تتدفق في سيول".
بين مطرقة إيران وسندان تركيا... يقبع العراقيون ويجف دجلة:
تتهم السلطات العراقية والمزارعون الأكراد في العراق تركيا بقطع المياه عن طريق احتجازها في السدود التي أنشأتها على المجرى قبل وصوله الى العراق.
وتؤكد الإحصاءات الرسمية ذلك: فمستوى نهر دجلة لدى وصوله من تركيا هذا العام لا يتجاوز 35 في المائة من متوسط الكمية التي تدفقت على العراق خلال 100 عام الماضية، وكلما ازداد احتجاز المياه، قلّ تدفق النهر الذي يمتدّ على 1500 كيلومتر يجتازها نهر دجلة قبل أن يندمج مع توأمه نهر الفرات ويلتقيا في شط العرب الذي يصب في الخليج، ويشكّل هذا الملف مصدرا للتوتر.
وتطلب بغداد بانتظام من أنقرة الإفراج عن كميات أكبر من المياه. وردا على ذلك، دعا السفير التركي لدى العراق "علي رضا غوني" العراقيين إلى "استخدام المياه المتاحة بفعالية أكبر"، وأضاف في تغريدة "المياه مهدورة على نطاق واسع في العراق".
على الجانب الآخر، تتجه الاتهامات أيضًا إلى إيران التي قطعت الكثير من روافد نهر دجلة، التي تنبع من أراضيها وتتجه للحدود العراقية، من خلال بناء السدود، وتحويل مجرى تلك الروافد إلى أراض داخل إيران.
حيث قطعت إيران مياه نهر الوند الذي يمر عبر منطقة خانقين إلى داخل الحدود العراقية في محافظة ديالى، وكذلك نهر الزاب الصغير الذي يمر من إيران إلى داخل مدينة السليمانية؛ ما تسبب في شحة غير مسبوقة في المياه لتلك المحافظة وصلت حد انقطاع مياه الشرب.
كذلك تسببت إيران في جفاف كامل لبحيرات حمرين وساوة، والتي تحولت إلى صحراء جرداء بعد أن كانت مصدراً مهماً للثروة السمكية ومياه الشرب في العراق.
سنهاجر بسبب المياه:
في بعض الأماكن، يبدو النهر مثل برك ناتجة عن مياه الأمطار. فالتجمعات الصغيرة للمياه في مجرى نهر ديالى هي كل ما تبقى من رافد نهر دجلة في وسط العراق الذي بدونه، لا يمكن زراعة أي شيء في المحافظة.
وبسبب الجفاف، خفضت السلطات هذا العام المساحات المزروعة في كل أنحاء البلاد إلى النصف. ونظرا إلى أن لا مياه كافية في ديالى، فلن يكون هناك حصاد.
يشكو المزارع "أبو مهدي" (42 عاما) قائلا "سنضطر إلى التخلي عن الزراعة وبيع ماشيتنا ونرى أين يمكننا أن نذهب".
ويضيف "لقد شردتنا الحرب (إيران والعراق في الثمانينات)… الآن سنهاجر بسبب المياه. بدون الماء، سنصبح نازحين، ولا يمكننا مطلقا العيش في هذه المناطق".
ويتابع "أبو مهدي": "استدنتُ لحفر بئر عمقه 30 مترا، لكنه كان فشلا تاما"، موضحا أن المياه المالحة لا يمكن حتى استخدامها في الري أو للحيوانات.
وبحلول 2050، "سيؤدي ارتفاع الحرارة درجة مئوية واحدة وانخفاض الهطول المطري بنسبة 10%، إلى انخفاض بنسبة 20 % في المياه العذبة المتاحة" في العراق، وفق ما حذّر البنك الدولي نهاية 2021.
وحذّرت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات غير الحكومية من أن ندرة المياه والتحديات التي تواجه الزراعة المستدامة والأمن الغذائي، هي من "الدوافع الرئيسية للهجرة من الأرياف إلى المناطق الحضرية" في العراق.
وبحلول نهاية مارس/ آذار 2022، نزحت 3300 أسرة بسبب "العوامل المناخية" في عشر مقاطعات من وسط البلاد وجنوبها، وفقا لتقرير نشرته المنظمة الدولية للهجرة في أغسطس/ آب.
وهذا الصيف، كان منسوب نهر دجلة منخفضا في بغداد لدرجة أن وكالة "فرانس برس" صوّرت شبانا يلعبون الكرة الطائرة في وسط النهر. وكانت المياه تصل بالكاد إلى مستوى خصورهم، وتردّ وزارة الموارد المائية ذلك الى "الرواسب الرملية". فنظرا إلى أن هذه الرواسب لم تعد تنصرف باتجاه الجنوب بسبب نقص تدفّق المياه، تراكمت في قاع دجلة واختلطت بالمياه المبتذلة، ما أدى إلى صعوبة تدفق مياه النهر.