قد يبدو ذلك غريبًا بالنسبة لبلد مفلس أو على شفى الإفلاس، لكن لبنان يحتل المرتبة الـ 20 عالميا في احتياطي الذهب، وفق تصنيف مجلس الذهب العالمي، ويتصدر المرتبة الثانية عربيا بعد السعودية (لديها 323.1 طنا)، إذ يملك 286.8 طنا، أي نحو 10 ملايين أونصة تناهز قيمتها 17 مليار دولار.
ويستذكر وزير المالية الأسبق والباحث المستشار لدى مؤسسات دولية مالية ومصرفية "جورج قرم"، قصة امتلاك لبنان لهذا الاحتياطي بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي، إذ بدأ منذ العام 1948 باقتناء أول كمية من الذهب على إثر انضمامه إلى صندوق النقد الدولي في العام 1946 بعد الاعتراف بالليرة اللبنانية عملة مستقلة.
وفي ذلك الحين، كما يشرح "قرم"، ارتبط شراء الذهب بتثبيت سعر صرف الدولار وحفظ قيمته، واستمر حتى أوائل السبعينيات إثر فكّ الولايات المتحدة الأميركية ارتباط تغطية الدولار وطباعته بالذهب. ومنذ العام 1971 توقف لبنان عن شراء الذهب إثر القرار الأميركي ببلوغ قيمة مدخراته 286.8 طنا.
ويصف الخبراء ما قام به اللبنانيون حينها بـ "التضحية الكبيرة"، إذ هرعوا إلى شراء الذهب وخدمة السياسات المالية مقابل عدم حصولهم على أدنى حقوقهم الأساسية، مما يجعل هذه الأصول المعدنية حقا مكتسبا لجميع اللبنانيين.
وعلى الرغم من هذه الكمية الضخمة التي حصل عليها اللبنانيون بصعوبة بالغة وبشق الأنفس، إلا أنه لا يتم استخدامها لدعم اقتصاد البلد المنهار في أحنك وأسوأ أوقاته، ربما على مر التاريخ.
وقد نشرت وكالة "الجزيرة" تقريرًا مفصلًا ناقشت فيه هذه القضية، نستعرض عليكم فيما يلي أهم وأبرز النقاط التي احتواها...
هل يمكن لذهب لبنان أن ينقذ أهله؟
في الوقت الذي يغرق فيه البلد بتقلبات حادة في سعر صرف الدولار (بين ما هو أقل وأكثر من 30 ألف ليرة)، وما يتمخض عن ذلك من انهيارات بمختلف القطاعات، وقّع لبنان اتفاقا على مستوى الموظفين فقط مع صندوق النقد الدولي لوضعه على سكة الإنقاذ.
وإذا نجحت المفاوضات مع الصندوق - رغم تشكيك الخبراء في ذلك - فإن التقديرات ترجح إمكانية حصول لبنان على نحو 4 مليارات دولار (أي ربع قيمة احتياطي الذهب) مقابل تنفيذ شروط صارمة أبرزها: تحرير وتوحيد سعر صرف الدولار، والاعتراف بالخسائر المالية وإعادة هيكلة النظام المصرفي والقطاع العام، وتوزيع الخسائر بعدالة بين الأطراف المعنية، وضبط العجز والتقشف في الموازنة العامة، وتوفير شبكات حماية اجتماعية.
وفي الآونة الأخيرة، تعالت الأصوات المطالبة بضرورة التعامل مع احتياطي المركزي، بما في ذلك الذهب، كآخر ذخيرة متبقية باعتباره القشة التي قد يتعلق بها البلد الغريق؛ في حين يجد آخرون ألا جدوى من تمويل دولة تشكو من الهدر والإفلاس والفساد بلا خطة إصلاح شاملة.
وهنا، يحذر "جورج قرم" من مخاطر استخدام الذهب نظرا لرمزيته لبنانيا وعالميا وفي ظل التشكيك بالقائمين على السلطات التشريعية والتنفيذية والنقدية بالبلد، مؤكدًا أن الذهب هو نقطة القوة الوحيدة التي يملكها لبنان في أزمته، وأي عملية لرهنه أو بيعه تعني انهيارا شاملا.
ويعتبر "قرم" أن أي إنقاذ "يجب أن يبدأ بلجنة تحقيق تدقق في حسابات المركزي وكل موجوداته، وعبر تغيير حاكمه رياض سلامة، الذي يستمر في وظيفته منذ 30 عاما". مشيرًا إلى أن اللجوء إلى الذهب هروب ممنهج من لبّ أزمة النظام النقدي "غير العقلاني".
ولفت إلى أن "المركزي كرّس على مدار عقود سعر صرف ثابتا (1507 ليرات مقابل الدولار) أدى إلى كارثة مالية ونقدية عبر الانتحار النقدي البطيء، في حين كان العالم يعتمد أنظمة سعر صرف عائمة، وهو ما يبرر فرادة النموذج اللبناني بأزمته المالية".
لو تطلب الأمر... كيف يمكن استخدام الذهب؟
تطرح الباحثة والصحفية الاقتصادية "فيفيان عقيقي"، تساؤلات عن أماكن تخزين ذهب لبنان، وتخشى رهنه وحجزه إلى حين سداد سندات اليوروبندز كاملة، في وقت يمكن فيه النهوض بلبنان عبر تسييل جزء منه في مشاريع استثمارية منتجة.
ملاحظة: في عام 1996، أقرت الحكومة اللبنانية اتفاقية عقود إصدار سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)، وتنص بأحد شروطها على أن على الدولة اللبنانية الخضوع لقوانين محاكم نيويورك لحل النزاع بينها وبين الدائنين، ويقتضي تخلي الدولة عن سيادتها على موجوداتها الخارجية، إذا تخلفت عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية.
وتنوه "عقيقي" إلى أن الذهب أهم هذه الموجودات الخارجية، مما قد يعني أن الدولة بحكم المتخلية عن أصولها الخارجية بعد التخلف لأول مرة عن سداد مستحقات اليوروبوندز في مارس/آذار 2020 بعهد حكومة "حسان دياب".
وترى أن تأييد التصرف بالذهب في الأزمة يرافقه حذر شديد بكيفية تفسير ذلك من قبل النخبة الحاكمة، معتبرةً أن الذهب عبارة عن أصول مادية قيمة، و"وضعها بلا تصرف لا معنى له، علما أن عدم التصرف فيها سابقا كان له معنى لحمايتها، وتاليا أي مساس بالذهب يرتبط بما سنستعمله".
وتعتبر "عقيقي" أن استخدام الذهب "يجب أن يكون لتمويل قطاعات إنتاجية زراعية وصناعية وبنى تحتية، لا لتثبيت سعر الصرف أو تعويض الدائنين والمصارف، ويجب أن يكون في خدمة كل الأجيال الحالية والآتية، وبناء على رؤية وتصور للدولة، لا للتفريط به كما فرطوا بأموال المودعين".
وتدعو للتفكير بكيفية رسملة مصرف لبنان، لأن السياسات النقدية التي يقوم بها هي أداة أساسية في توجيه الاقتصاد، في حين أن "ممارساته باللعب بالفائدة وطبع العملة لم تكن لخدمة المجتمع اللبناني، بل لخدمة أرباب المصارف ومراكمة أرباحها".
من جانبها، تذكر الباحثة القانونية المتخصصة بالشأن المصرفي "سابين الكيك"، أن التصرف بالذهب لا يتعلق بإرادة لبنان واللبنانيين وحدهم، بل هو رهن قرار مشترك مع جهات خارجية، وفي طليعتها واشنطن وصندوق النقد الدولي والدول القادرة على شرائه وتحمل عمليات نقله، مذكرة أن عددا من الدول مثل ألمانيا واجهت مصاعب كبيرة لاسترجاع ذهبها المحفوظ في أميركا.
وتقول إن نقل الذهب يستوجب إجراءات معقدة مرتبطة بالأطراف المعنية به وليس بالدولة التي تملكه فحسب، وأن خيار رهنه أهون من خيار بيعه، لأنه يكون بمثابة كفالة لا تتطلب نقله.
وترى أن إثارة ملف الذهب تشغل الرأي العام اللبناني بما هو غير منطقي للتحقق بالمدى المنظور، وأن مشكلة لبنان هي فقدان الثقة في نظامه المالي، والحل في تشغيل العجلة الاقتصادية وهيكلة القطاع المصرفي وإعادة إنعاشه واسترجاع أموال المودعين. إذ "لا معنى لأي حل إنقاذي لا يبدأ بإصلاح المصارف وتوظيفها خدمة للاقتصاد والمجتمع".