تخيّل أنك في المستقبل تجلس منتظرًا ثلاجتك التي تراقب محتوياتها وتطلب تلقائيًّا العناصر التي تنفد من متجرك المفضل الذي يقوم بتسليمها إلى باب منزلك، ثم تدفع ثلاجتك ثمن المشتريات تلقائيا بعملة رقمية؛ هذا هو عالم الجيل الثالث للويب الذي يبدو وكأنه خيال علمي، لكنه أقرب مما نتصور أن يكون واقعًا.
وحتى يكون ذلك منطقيًا، فالعملة الرقمية التي ستتم عملية الدفع عن طريقها لا يجب أن تكون مثل الـ "بيتكوين" أو "إيثيريوم" اللتان تتقلبان بشكل كبير على مدار الساعة، بل إنك ستحتاج إلى عملة رقمية مشفرة لكنها مستقرة؛ مثل الـ "USDT" أو الـ "BUSD".
إن الأفق التي تنتظر هذه العملات المستقرة، أكبر بكثير من كونها مجرد أداة للمضاربة في بورصات التداول، بل إنها قد تسهم في صنع مستقبل المال والاقتصاد.
ما هي العملات المستقرة المشفرة؟
برز مصطلح العملات المستقرة في سوق الكريبتو الذي يتأرجح سعر العملات المشفرة فيه بسرعة كبيرة، وكانت الحاجة الأساسية لها تتمثل بأنها خيار لتخزين قيمة الأموال بطريقة تستبعد التقلبات.
لذلك، تعتبر العملات المستقرة جزءًا أساسيًا من نظام التشفير، وهي بمثابة جسر بين البنوك التقليدية وعالم “البلوكتشين” الذي يستخدم فيه الناس العملات المشفرة.
وتبلغ قيمة جميع العملات المستقرة معًا، وأهمها عملة “تيثر”(USDT) و”يو إس دي كوين” (USDC)، التي تدعمها شركة “سيركل” (circle)، حوالي 170 مليار دولار.
وتمتلك كل عملة مستقرة آلية للحفاظ على قيمتها، وتكمن الطريقة الأبسط والأكثر أمانًا في الاحتفاظ بالدولار في حساب مصرفي أو في أصول سائلة آمنة مثل سندات الخزانة، وربطه بكل أصل مشفر مميز ثابت.
يمكن للمشترين والبائعين تداول العملات المستقرة بحرية ومرونا، وعندما يريد البائع بيع عملته المستقرة، يمكنه إما بيعها في السوق المفتوحة أو استبدالها بعملة مادية من مخزون الشركة المصدرة.
تأسيسًا على ذلك، لم تقتصر وظيفة العملات المستقرة على دعم المتداولين في عالم الكريبتو، بل باتت تتحول تدريجيًا إلى وسيلة دفع، وأداة للحوالات حول العالم (خدمة يا مرسال للحوالات الرخيصة مثال على ذلك).
هل يمكن الثقة بالعملات المستقرة المشفرة بعدما حدث لـ " تيرا يو إس تي"؟
فقدت عملة "تيرا يو إس دي TerraUSD" المشفرة الربط مع الدولار الأمريكي خلال تعاملات الأربعاء الماضي، مع تراجع الثقة في العملة المشفرة وشركتها ككل.
وقد تسبب ذلك بأن يشكك بعض الناس ذوي الاطلاع المحدود على عالم الكريبتو بنظام العملات المستقرة ككل، لكن أخذ الأمر على هذا المنحى وتوقع حدوث انهيار مشابه في عملات مستقرة أخرى هو أمر بعيد عن الواقع حاليًا، للسبب التالي:
يطلق على العملات المستقرة مثل “تيرا”، اسم “العملات المستقرة الحسابية” لأنها تستخدم عملية آلية لدعم قيمتها. ولكن السمة المميزة الرئيسية لها تكمن في الطريقة التي يتم دعمها بها. فكانت النظرية أن مالكي عملة “لونا” يمكنهم دائمًا بيعها مقابل عملة “تيرا المستقرة” التي تساوي دولارا واحدا.
بعبارة أخرى، عملة “تيرا” مدعومة بعملة “لونا”(Luna) المشفرة الصادرة عن نفس الشركة التي تصدر عملة “تيرا”. مما يعني أن انهيار "لونا" سيؤدي حتميًا لتزعزع "تيرا يو إس تي". (تخيل الأمر كما لو أن عملة بلد ما مدعومة بغطاء من الذهب، ثم فجأة هبطت أونصة الذهب إلى الحضيض)
كان هذا النظام فعالا في الوقت الذي تمتعت فيه عملة “لونا” بقيمة سوقية. لكن في 9 مايو/أيار، بدأ سعرها في الانخفاض. وفي 10 مايو/أيار، بلغت قيمتها حوالي 30 دولارا وانخفضت في اليوم التالي إلى أقل من 1.50 دولار. وعندما انهارت عملة لونا، بدأ الناس في بيع عملة تيرا أيضا.
وهكذا فإن انهيار عملة "تيرا" المستقرة، كان بسبب نظام الشركة الذي أخطأ بافتراض أن المستثمرين سيحافظون على ثقة ثابتة تجاه "لونا"، وأنها لن تنهار إلى درجة تدفع الشركة للإفلاس.
وتكرار هذه الحادثة هو أمر غير مستبعد بالنسبة لأي عملة مستقرة أخرى، إذا كانت مرتبطة بعملة مشفرة غير مستقرة ومعرضة للانهيار.
لكن ذلك لا ينطبق على "USDT" مثلًا، إذ تؤكد شركة “Tether LTD” المشغلة للعملة، أن كل USDT 1 يتم تداولها تكون مدعومة بـ 1 دولار أمريكي من احتياطاتها.
وهذا وحده ليس السبب الأهم في اعتبار USDT على أنها عملة آمنة، بل إن الأمر يتعلق بقيمتها السوقية الهائلة والاعتراف الضخم الذي تمتلكه في أوساط المتداولين والتجار من أصحاب الملايين والمليارات.
حيث تتمتع عملة تيثر/ USDT الرقمية بالعديد من المزايا بخلاف استقرارها، وتعتبر مقبولة على نطاق واسع في صناعة العملات الرقمية، علاوةً على كونها موجودة في معظم بورصات العالم.
وقد قدمت شركة “تيثر ليمتد” تقرير الشفافية اعتبارًا من يونيو/ حزيران 2021 يوضح بالتفصيل تكوين احتياطاتها من الدولار الأمريكي، والتي يتكون ٪85 منها من الأوراق التجارية وشهادات الإيداع وأذونات الخزانة.
إعلان الشركة ذاك كان من شأنه أن يضع عملة تيثر/ USDT ضمن قائمة أكبر 10 حاملين للأوراق التجارية في العالم، وفقاً لبنك “جي بي مورجان”.
في النهاية، لا توجد ضمانة مؤكدة 100% على أن أي أصل مالي في العالم غير معرض للتدهور أو الانهيار، فحتى الدولار الأمريكي قد يتدهور غدًا لو أعلنت الولايات المتحدة دخولها بحرب أو اتخاذ قرار اقتصادي مفاجئ كخفض كبير للفائدة على سبيل المثال.
لكن المعطيات تخبرنا بأن عالم العملات المستقرة يتجه لأن يصبح أقوى وأكثر توسعًا؛ لذا فإن المبالغة في المخاوف والشكوك قد يفقدنا فرصة مواكبة هذا التطور الواعد الذي قد يرسم مستقبل كل من التكنولوجيا والمال في المستقبل.