تتلقى الأسواق الأميركية مؤخرًا رسالة واضحة مفادها بأن "عصر الأموال منخفضة التكلفة" قد ولى لفترة لا يعرف أحد مداها، في ظل خطوات البنك المركزي الأميركي لرفع أسعار الفائدة وتصريحات مسؤوليه التي تشير إلى المزيد من رفع الأسعار بوتيرة أكبر وأسرع لمواجهة معدلات التضخم الآخذة في الصعود.
والأسبوع الماضي تسببت كلمات "جيمس بولارد"، رئيس البنك الفيدرالي في سانت لويس، بشأن تأخر البنك في اتخاذ الخطوات الأساسية لمحاربة التضخم، في ارتفاع معدلات العائد على سندات الخزانة الأميركية، لتسجل سندات العشر سنوات المعيارية 2.72% لأول مرة منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وتوقع "بولارد" تعجيل رفع معدلات الفائدة، مشيراً إلى أن بعض المقاييس توضح ضرورة رفعها بما يقرب من 300 نقطة أساس (3%) خلال الفترة القادمة.
وتعد سندات العشر سنوات واحدة من أهم محددات معدل الفائدة المطبق على العديد من أنواع القروض في السوق الأميركية. ومنها بالتأكيد قروض الرهن العقاري.
وحين نتحدث عن الأسواق الأمريكية فنحن لا نتحدث عن تأثيرات على مستوى أمريكا أو المنطقة، فأسواق الولايات المتحدة – وهي القلب النابض للاقتصاد العالمي – لها دور لا يمكن إنكاره في تحديد التوجهات الاقتصادية للعالم ككل، وما يحدث في أروقة الاقتصاديين والساسة الأمريكان اليوم، سنرى أثره في عقر دار بلداننا غدًا.
الفائدة المرتفعة ليست عصا سحرية للقضاء على التضخم:
إن الرأي المتعنت لسياسات رفع الفائدة، والقائل بأن الفائدة المرتفعة تساعد في القضاء على التضخم، هو في الأساس توجه اقتصادي رأسمالي مترسخ في المبادئ الاقتصادية الغربية لقانون العرض والطلب.
وما يحدث في أمريكا، أن الساسة والاقتصاديين لا يرون أمامهم أو لا يعرفون طريقة أخرى للتعامل مع الأمر سوى رفع الفائدة، مثلهم بذلك مثل الطالب الذي حفظ عن ظهر قلب طريقة واحدة لحل الأسئلة، وهو يواجه في الامتحان الآن أسئلةً من طرازٍ مغاير.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هنا هو: "هل ستنجح خطة رفع الفائدة في إنقاذ العالم من براثن التضخم هذه المرة؟".
قدّم "جيم بيرد"، وهو كبير مسؤولي الاستثمار في شركة "بلانت موران" للاستشارات المالية، إجابة أولية على مدى قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض التضخم عبر سياسة الفائدة، والتي كانت ببساطة "لا".
وأشار إلى أن السياسات النقدية يمكنها بالتأكيد المساعدة في كبح جماح جانب الطلب من خلال رفع أسعار الفائدة، لكنها لن تفرغ سفن الحاويات، ولن تعيد فتح الطاقة الإنتاجية في الصين، ولن تقوم بتوظيف سائقي الشاحنات الكبيرة، والتي تنقل البضائع عبر البلاد.
ومع ذلك على الرغم من كل شيء، سيحاول صناع السياسة إبطاء الاقتصاد وكبح التضخم.
نهج ذو شقين:
ما يحدث حاليًا، أن الفيدرالي الأمريكي يسير في نهج ذو شقين: سيرفع البنك المركزي أسعار الفائدة المعيارية قصيرة الأجل مع التخلص من سندات بقيمة تتجاوز 8 تريليونات دولار، التي تراكمت على مر السنين للمساعدة في الحفاظ على تدفق الأموال عبر الاقتصاد.
وبموجب مخطط بنك الفيدرالي، فإن الانتقال من هذه الإجراءات إلى تضخم أقل يسير على النحو التالي:
تجعل المعدلات المرتفعة التمويل أكثر تكلفة والاقتراض أقل جاذبية، وهذا بدوره يؤدي إلى إبطاء الطلب لمواكبة العرض، الذي تأخر بشدة خلال الوباء، ومع انخفاض الطلب يعني أن التجار سيتعرضون لضغوط لخفض الأسعار لجذب الناس لشراء منتجاتهم.
فيما تشمل الآثار المحتملة انخفاض الأجور، ووقف أو حتى انخفاض أسعار المساكن المرتفعة، وبالتأكيد انخفاض في التقييمات لسوق الأوراق المالية الذي صمد حتى الآن بشكل جيد إلى حد ما في مواجهة التضخم المرتفع وتداعيات الحرب في أوكرانيا.
وقال "بيرد": "لقد نجح بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى حد معقول في إقناع الأسواق بأن عينها على ما يحدث، وتوقعات التضخم طويلة الأجل قيد السيطرة".
حلقة مفرغة ستؤدي إلى تضخمٍ جديد:
قد يبدو السيناريو المذكور أعلاه مثاليًا للوهلة الأولى، خصوصًا لو تغاضينا عن بعض الآثار الجانبية السلبية التي قد تكون مؤقتة.
لكن هذا ليس كل شيء، فلا يجب إهمال العامل النفسي في المعادلة، حيث يُعتقد أن التضخم هو شيء من نبوءة تحقق ذاتها. وعندما يعتقد الناس أن تكلفة المعيشة ستكون أعلى، فإنهم يعدلون سلوكهم وفقاً لذلك.
على الجانب الأخر، ترفع الشركات أسعار منتجاتها وخدماتها، فيما يطالب العمال بأجور أفضل، وفي هذه الحلقة يمكن أن تؤدي إلى زيادة التضخم من جديد، والنتيجة: حصلنا على سلبيات الفائدة المرتفعة من ركود في الاستثمار وصعوبة بالقروض، ولم نتخلص من التضخم!
وهذا هو السبب في أن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي لم يوافقوا فقط على رفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ أكثر من 3 سنوات، ولكنهم تحدثوا أيضاً بحزم بشأن التضخم، في محاولة لكبح التوقعات المستقبلية.
خطة الولايات المتحدة يتخللها عامل الحظ:
تعتبر الظروف المالية حالياً، وفقاً للمعايير التاريخية، ضبابية للغاية وغير واضحة، على الرغم من اتخاذ تدابير روتينية والتعامل مع الأمر بصورة معهودة.
لكن في الواقع، هناك الكثير من المتغيرات، وأكبر مخاوف صانعي السياسة هو أنهم في محاولة كبح جماح التضخم لا يتسببون في تراجع بقية الاقتصاد في نفس الوقت، ودفعه للركود.
ويرى كبير الاقتصاديين في وكالة موديز، "مارك زاندي"، أن موازنة هذه الأمور يحتاج القليل من الحظ.
وحذر من أنه في حال فشل الموازنة بين كبح التضخم والتأثير السلبي على النمو، فإن الاقتصاد سيدخل في سيناريو الركود التضخمي وسيحتاجون وقتها لعلاجه بالدخول في ركود فقط.
درس من التاريخ:
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، يتذكر العديد من الاقتصاديين جهود رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي آنذاك "بول فولكر"، لمواجهة الأسعار الجامحة عبر رفع أسعار الفائدة إلى ما يقرب من 20%، مما دفع الاقتصاد إلى الركود بسرعة قبل أن تحين الفرصة لترويض وحش التضخم.
وغني عن القول إن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يريدون تجنب سيناريو شبيه بسيناريو "فولكر" قدر الإمكان.
لكن بعد شهور من الإصرار على أن التضخم كان "مؤقتاً"، يضطر البنك المركزي لتشديد سياسته النقدية بصورة سريعة بعدما تأخر في قراءة الأرقام بشكل جيد في البداية.