بدايةً من النفط والغاز مرورًا بالمعادن إلى المحاصيل الزراعية والأغذية... تشهد كل هذه السلع مؤخرًا ما يمكن وصفه دون تردد بـ "جنون الطلب"، لدرجة أنه بات من الصعب تحديد هل ترتفع أسعار هذه السلع من شدة الطلب، أم أن الطلب الشديد يأتي بسبب استمرار ارتفاع أسعارها.
على أي حال فإن ما يحدث، يدفع المستثمرين للهروب من النقد الذي تضعف قيمته بشكل متسارع، وتحصين محافظهم بزيادة الاستثمار في الأسهم المرتبطة بهذه السلع، على حساب قطاعات أخرى غير أساسية حتى لو كانت مرتبطة بالتكنولوجيا التي تسوق العالم في الكثير من الأنشطة، أو القطاع الطبي الذي قد حمل الكلمة العليا سابقًا، وكأن لا صوت يعلو فوق صوت الغذاء والوقود والسلاح في هذه المرحلة.
الملاذات المالية الآمنة... بحث حثيث وتخبط:
تسببت الأجواء التي نعيشها في دفع شرائح من المستثمرين إلى التخلص من نسبة كبيرة مما في حوزتهم من أسهم، أو البحث عن ملاذات آمنة، كسندات الخزانة الأميركية أو "الأسهم الدفاعية" المرتبطة بالسلع التي يتزايد عليها الطلب خلال الحروب والأزمات مثل المعادن والحبوب ومصادر الطاقة.
ونصح "مارك هايفيلي"، مسؤول الاستثمار في بنك "يو بي إس" السويسري، في مذكرة لعملائه، بـ"تنويع محافظهم بين الأصول المختلفة والمواقع الجغرافية المختلفة" لتخفيف المخاطر.
وأشار إلى ضرورة التفكير في استعمال "أدوات التحوط الجيوسياسية"، بما فيها التوجه نحو أسهم القطاعات التي يزداد الطلب عليها في أوقات الحروب وهي الأسهم التي تنتج السلع التي يصعب الاستغناء عنها، بالإضافة إلى شراء أسهم شركات النفط والطاقة، التي توقع لها أن تنتعش "سواء تطورت الأمور باتجاه المزيد من المواجهات العسكرية، أو أمكن التوصل إلى اتفاق يسمح بتسوية سلمية".
وكأن الجائحة لم تكن:
خلال الأسابيع الأخيرة، سيطر الاجتياح الروسي لأوكرانيا وتوجهات البنك الفيدرالي الأميركي لرفع معدل الفائدة على الأخبار في الولايات المتحدة وحتى البلدان الفقيرة التي تعتمد على الاقتراض لسد احتياجاتها التمويلية، حتى كاد العالم ينسى أنه عانى للتو من فيروس قاتل أودى بحياة الملايين.
ورأى "ديفيد كاستنر"، مدير مركز الأبحاث المالية ومسؤول إدارة المحافظ لدى شركة الخدمات المالية تشارلز شواب، أنه "حتى تزول غمامة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتتضح الرؤية فيما يخص تأثير ارتفاع أسعار السلع ورفع معدلات الفائدة وتقييد التمويل على الاقتصاد، يكون من الأفضل توزيع الاستثمارات بالتساوي بين القطاعات المختلفة".
وقال "كاستنر" في مذكرة أرسلها لعملائه ونشرتها الشركة على موقعها الإلكتروني، إنه سيتجه لتقليل استثمارات المحافظ التي يديرها في القطاع الصحي ليجعل لها نفس الوزن النسبي الموجه للقطاعات الأخرى، بعد أن كان يمنحه أفضلية على مدار العامين الماضيين.
كما قرر "كاستنر" فعل الشيء نفسه مع القطاع المالي، بعد الخسائر التي يتوقع أن تتعرض لها بعض المؤسسات المالية، مثل "سيتي بنك" و"غولدمان ساكس" و"جيه بي مورجان"، لانكشافها على المؤسسات والأفراد الروس، في أعقاب فرض الدول الغربية عقوبات اقتصادية شاملة على روسيا وبنوكها والكيانات التابعة لها.
وأضاف أن "الحظر التام لواردات النفط الروسي من قبل الولايات المتحدة ودول أخرى أدى إلى تعزيز المقاطعة من قبل السوق الخاصة، وهو ما جعل الأسعار تقفز بالطريق التي شهدناها، ولم يتوقعها الكثيرون في هذه الفترة الزمنية القصيرة".
وتابع أن العديد من السلع الأخرى تأثرت أيضاً، "حيث تعد روسيا مصدرا رئيسيا للقمح والغاز الطبيعي والمعادن والأسمدة، وهو ما تسبب في ارتفاع أسعار معظم السلع".
وقدر "كاستنر" أن يستمر ارتفاع أسعار السلع "طالما بقيت الأمور غامضة فيما يتعلق بموعد هدوء مخاوف المتعاملين والطلب على تلك السلع، أو موعد هدوء العاصفة الجيوسياسية".
ولفت إلى أن التقلبات السعرية لهذه السلع ستكون كبيرة وسريعة، "الأمر الذي يزيد من صعوبة الاحتفاظ بآراء حول القطاعات التي تتأثر بها، مثل الطاقة والمعادن ومواد البناء". ونصح المستثمرين باللجوء إلى القطاعات الدفاعية، مثل المرافق والسلع الاستهلاكية ومواد البناء.
الذهب والعملات الرقمية:
صمدت العملات الرقمية التي تعتبر أصلًا ماليًا مرتفع المخاطرة، أمام التوترات الجيوسياسية التي عصفت بالمنطقة، بل إنها ارتفعت وأثبتت قدرتها على تشكيل فارق في المعادلة الاقتصادية بعدما كان ينتظر البعض انهيارها كليًا في مثل هذه الأوقات.
وقد وصل سعر البيتكوين في تداولات اليوم الخميس إلى مستويات 43 ألف دولار، وبلغ حجم التداول خلال الـ 24 ساعة الماضية أكثر من 2 مليار دولار.
أما الذهب، فقد شهد حالة من التذبذب والتخبط على وقع قرارات الفائدة ومخاوف الحرب، حيث وصل إلى سعر أعلى من 2060 دولار ثم هبط مجددًا إلى قاعٍ يقارب 1900 دولارًا للأونصة في ظرف 30 يومًا فقط. ويتم تداول الأونصة حاليًا عند مستويات 1950 دولار.
وتسبب هذا التخبط في التشكيك بجدوى المعدن الثمين كتحوط مضمون خلال هذه الأزمة؛ وعلى أي حال فالأمر برمته يتعلق بمدى صمود الدولار أمام التضخم ومستقبل قرارات الفائدة التي سيتخذها الفيدرالي، وتطورات الحرب الأوكرانية بالطبع.