في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2021، شهد العالم لأول مرة في التاريخ وجود رجل واحد تتخطّى ثروته 300 مليار دولار. هذه الثروة التي وصل إليها "إيلون ماسك" ذو الخمسين عاما تزيد بنحو 100 مليار على أقرب منافسيه في المركز الثاني وهو "جيف بيزوس"، وتزيد بفارق خيالي عن ثروة أي رجل أعمال آخر على الأرض.
ويعرف الجميع أن وصول ثروته إلى هذا الحد غير المسبوق قد حدث بفضل شركته "تسلا" (Tesla) للسيارات الكهربائية التي ارتفعت أسهمها ارتفاعا كبيرا طوال العام الماضي.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن "تسلا" هذه، التي جعلت ثروة ماسك تقفز بسرعة ليصبح أغنى رجل في التاريخ، كانت واحدة من أكثر شركاته زخما بالأحداث الدرامية منذ لحظة تأسيسها، وأنها هي نفسها كادت تكون السبب في إفلاسه تماما يوما من الأيام.
إيلون ماسك ليس مؤسس "تسلا" ولا صاحب فكرة السيارات الكهربائية:
في صيف عام 2003، اجتمع كلٌّ من المهندسَيْن "مارتن إيبرهارد" و "مارك تاربينينج" لتأسيس شركة "تسلا موتورز" في مدينة سان كارلوس بولاية كاليفورنيا، وسُمِّيت الشركة بهذا الاسم تيمُّنًا باسم المخترع والكهربائي والفيزيائي الصربي الشهير "نيكولا تسلا"، الذي اشتهر باكتشافاته الكبرى في مجال الهندسة الكهربائية وجعلته موضع احتفاء العلماء والمهندسين في العقود الأخيرة.
انطلقت الشركة بهدف مُحدَّد: تطوير وإنتاج سيارة تعتمد بالكامل على الطاقة الكهربائية. وقد بُنِي النموذج الأوَّلي لهذه الفكرة على تجارب اختبارية لشركة "جنرال موتورز" عملت عليها في أحد برامجها لتطوير السيارات في نهاية التسعينيات.
ورغم أن تلك النماذج لم تُطرَح في الأسواق للمستهلكين بسبب الكثير من المشكلات والعيوب، فإن المبادئ التي قامت عليها كانت سليمة من الناحية الهندسية، وكانت هذه هي نقطة البداية.
بعد عدة أشهر من انطلاق الشركة التي كانت تملك نماذج ومخططات مبدئية لأعمالها، كان الهدف هو أن تحصل على تمويل مبدئي جيد يُمكِّنها من بدء عملياتها فعليا. هنا ظهر رائد الأعمال "إيلون ماسك"، الذي قاد جولة استثمارية من الفئة (A) لصالح الشركة بقيمة 7.5 ملايين دولار، من بينها 6.5 ملايين دولار تعود له شخصيًا، بعدما كان قد حاز على مبلغ كبير يتجاوز 100 مليون دولار نظير بيع حصته في شركة "باي بال" (Paypal) للمدفوعات الرقمية.
هذا التمويل أتاح لـ "إيلون ماسك" السيطرة على مجريات الأمور في الشركة الصغيرة الناشئة، بعد أن أصبح المالك الأكبر لأسهمها ورئيس مجلس إدارتها، لتصبح خريطة "تسلا" الصغيرة مُمثَّلة في "مارتن إيبرهارد" مديرا تنفيذيا (CEO)، و "مارك تاربينينج" مديرا ماليا (CFO)، بينما كان دور "ماسك" هو رئاسة مجلس إدارة الشركة.
بدأت القصة بواحدة من نكات "ماسك"... خطة سرية مُعلَنة:
في عام 2006، نشر "إيلون ماسك" تدوينة بعنوان طريف: "الخطة السرية الكبرى لشركة تسلا للمحركات (بيني وبينكم فقط)"، أعلن فيها أن إستراتيجية "تسلا" الأساسية هي تسريع إنتاج مركبات تعمل بالطاقة الكهربائية تحل محل المركبات التقليدية التي تستخدم الوقود الأحفوري، وأن الهدف المباشر للشركة -وقتئذ- هو إطلاق سيارتها الرياضية الأولى "رودستر" (Roadster) بداية لتطوير سيارات أخرى لاحقا.
في العام نفسه، استطاع إيلون ماسك جذب جولة استثمارية جديدة من الفئة (B) لـ "تسلا" بقيمة 13 مليون دولار، أتبعها في العام نفسه بجولة تمويل جديدة بقيمة 40 مليون دولار استطاع جذبها من مؤسسي شركة "غوغل"، لتبدأ قيمة الشركة في التزايد تزايدا ملحوظا مع عملها المستمر على صناعة نموذج السيارة الرودستر الأولى التي تضع رهاناتها عليها.
وبالفعل، كُشف النقاب عن سيارة "تسلا رودستر" الرياضية الأولى التي تعمل بالكامل بالطاقة الكهربائية في فبراير/شباط 2008، وسُلِّمت مفاتيح أول سيارة إلى "إيلون ماسك".
كان ذلك إنجازا مذهلا لـ "تسلا" لم تسبقها إليه أية شركة أخرى حاولت إنتاج سيارة كهربائية من قبل. إذ كانت النسخة الأولى واعدة للغاية، رغم ارتفاع سعرها حيث بيعت بسعر 109 ألف دولار.
لكن الأمور لم تكن بهذه المثالية التي قد تتصورونها، حيث كان شحن بطارية السيارة يتطلَّب ما بين 24-48 ساعة، وهو ما مَثَّل التحدي الرئيس لشركة "تسلا" مقارنة بملء سيارات الوقود الذي لا يأخذ إلا ثواني عديدة.
ومع ذلك، فإن نجاح السيارة وسرعتها وكفاءتها بنسختها الأولى أتاح استمرارية إنتاجها لعدة سنوات لاحقة حتى عام 2012، حيث بيع منها 2450 سيارة.
وهكذا فقد بلغت الآمال والأحلام والخطط عنان السماء... شركة واعدة ومهندسون وتنفيذيون على أعلى مستوى، وبرامج تمويل طموحة للمزيد من خطط التطوير، لكن هذه الآمال اصطدمت بأسوأ كابوس ممكن بقدوم أكتوبر/تشرين الأول عام 2008.
أيام عصيبة:
يعلق "إيلون ماسك" على ما حدث في عام 2088 قائلًا: "في تلك الفترة، أنفقت على "تسلا" آخر ما أملكه من المال الذي جاءني من بيع حصتي في شركة "باي بال". لم أكن أملك وقتها حتى منزلا أو أي شيء آخر لبيعه".
ومن التاريخ وحده يجب أن تكونوا قد عرفتم أن هذا بسبب الأزمة الشهيرة التي ضربت اقتصادات العالم آنذاك.
على أي حال، في نهاية عام 2008، تولَّى "إيلون ماسك" منصب المدير التنفيذي للشركة ليصبح مسؤولا مسؤولية كاملة عن إدارتها بنفسه.
بعد توليه المنصب، قرَّر "ماسك" تخفيض العمالة والموظفين في الشركة بنسبة 25%، وأعلن عن تأجيل إطلاق نموذج سيارة تسلا الجديدة "موديل S"، كما تقدَّم ماسك -للمرة الأولى- بطلب مساعدة لتأمين 40 مليون دولار لحماية "تسلا" من الإفلاس، فيما اعتبره هو "أحلك ساعة" (Darkest Hour) مرَّت بها شركته في تاريخها.
ورغم أن الاحتفال بإطلاق سيارتها الأولى لم يمر عليه عام، فإن الشهور التالية كانت عصيبة بالنسبة إلى "تسلا"، حيث لم يعد بحوزتها أكثر من 10 ملايين دولار، وهو رقم لا يكفي لتلبية خطط إنتاج هذه السيارة.
ساعتها، جاء الإنقاذ الثاني بواسطة شركة "دايملر" التي منحت "تسلا" مبلغ 50 مليون دولار مقابل 10% من أسهم الشركة، وعقد شراكة بين الطرفين لتطوير البطاريات الكهربائية، ثم أخيرا حصلت "تسلا" على قرض كبير من وزارة الطاقة الأميركية بقيمة 465 مليون دولار.
وكانت هذه التمويلات كافية لإعادة ثقة السوق في "تسلا" وإنقاذ الشركة من انهيار مُحقَّق، وزادت الثقة أكثر مع إعلان "ماسك" عن نماذج أوّلية لنسخة أول سيارة سيدان "موديل S" في مؤتمر في الربع الأول من 2009، مُستعرِضا مزاياها باعتبارها سيارة عائلية وليست رياضية، الأمر الذي جعلها تؤمِّن حجز 1000 وحدة حجزا مبكِّرا من قِبَل الجمهور المتحمِّس.
من شركة متعثرة إلى شركة صنعت أغنى رجل عرفه التاريخ الحديث:
في فبراير/شباط 2018، شهد العالم واحدة من أكبر حملات الدعاية لشركة "تسلا"، حيث أطلقت شركة "سبيس إكس" (SpaceX) للصناعات الفضائية الجوية -التي يتولى "إيلون ماسك" منصب المدير التنفيذي لها أيضا- صاروخ فالكون الثقيل (Falcon Heavy) إلى الفضاء، حاملا سيارة ماسك الشخصية من تسلا "رودستر حمراء"، وتجلس بداخلها في موضع القيادة دمية ترتدي زيا فضائيا في طريقها إلى مدار كوكب المريخ.
وبقدوم عام 2019، أزاح "ماسك" الستار عن أحد أضخم منتجات "تسلا" وهي شاحنة "Cybertruck" الفولاذية بتصميمها الغريب ومزاياها الكبيرة، التي وُصفت بأنها أقرب إلى شاحنة قادمة من المستقبل.
وبحلول نهاية عام 2019، ورغم بعض المشكلات التي مرَّت بها الشركة في أطقمها الإدارية، ارتفع سهم "تسلا" ليُلامس سقف إغلاق بقيمة 418 دولارا.
أما عام 2020، فمَثَّل القفزة الضخمة لشركة "تسلا"، مع تزايد أرباح الشركة، حتى وصل السهم لأول مرة إلى سقف إغلاق بقيمة 900 دولار.
وفي الخامس والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021، ارتفع سهم "تسلا" لأول مرة في تاريخه ليتجاوز أعلى مستوى إغلاق وصل إليه من قبل وهو 909 دولار للسهم الواحد، وصولا إلى 1028 دولارا للسهم، بزيادة أكثر من 13%، ليرفع بذلك القيمة السوقية للشركة فوق مستوى التريليون دولار لأول مرة.
وهكذا أصبحت "تسلا" أحدث المنضمين إلى نادي الشركات التي تتجاوز قيمتها تريليون دولار، وأسرعهم أيضا، حيث استغرقت نحو 18 عاما منذ تأسيسها للوصول إلى هذه القيمة، و11 عاما منذ تحوُّلها إلى شركة عامة، بينما استغرقت غوغل مثلا نحو 21 عاما للوصول إليها.
ما المستقبل الذي ينتظر تسلا؟
يقول "ماسك": "عندما صنع هنري فورد سيارة رخيصة وواقعية لأول مرة، اعترض الناس وقالوا: وما مشكلة الخيول؟ كان رهانا كبيرا على المستقبل ذلك الذي صنعه فورد، ونجح في كسب هذا الرهان".
مع زيادة الإيرادات الفصلية لشركة "تسلا" للربع الثالث من عام 2021 لتصل إلى 13.8 مليار دولار، بزيادة 57% عن العام الأسبق، ازدادت ثقة العملاء والمستثمرين في الشركة، حتى مع وجود أزمة سلاسل التوريد العالمية التي لم تؤثر تأثيرا كبيرا على نشاط الشركة.
فخلال عام الماضي، كان من المتوقَّع تسليم نحو 900 ألف سيارة، تم الانتهاء من تسليم قرابة ربع مليون وحدة منها خلال الربع الثالث من العام -وهو أكبر عدد تسليم للوحدات في فترة مماثلة على الإطلاق- من إنتاج مصانعها في كاليفورنيا والصين.
ومن المتوقَّع أن ترفع "تسلا" إنتاجها بأكثر من 50% في العام الحالي 2022، مع التخطيط لتسليم نحو 1.3 مليون سيارة على الأقل خلال هذا العام.
هذه الأرقام المُشجِّعة لا تزال بالطبع أقل بكثير من أرقام شركات السيارات التي تستخدم الوقود الأحفوري مثل شركة "فولكس فاغن" التي تُنتج سنويا قرابة 10 ملايين سيارة، وشركة "تويوتا" التي تُنتج نحو 7 ملايين، وتحالف "رينو – نيسان – ميتسوبيشي" الذي يُنتج 6.8 ملايين سيارة.
ومع ذلك، فوفقا لخطة "ماسك" طويلة المدى، فإنه يعمل على زيادة المبيعات سنويا بنسبة 50% للوصول إلى إنتاج 20 مليون سيارة.
تنتج 1% من سيارات العالم وقيمتها تساوي أكبر 9 شركات لصناعة السيارات مجتمعة:
رغم أن "تسلا" الآن لا تُنتج سوى 1% على الأكثر من إجمالي عدد السيارات عالميا، فإن تجاوز قيمتها لحاجز التريليون دولار يجعلها تساوي إجمالي القيمة السوقية لأكبر 9 شركات صناعة سيارات حول العالم مجتمعة، بما فيها الشركات العملاقة مثل "تويوتا" و"فولكس فاغن".
أما السبب في ذلك هو أن قيمة الشركة مُستمَدة من رؤية السوق للتزايد الحتمي في الاعتماد على السيارات الكهربائية في المستقبل بديلا عن السيارات التقليدية.
ثروة لا تحرقها النيران... ماذا سيفعل "ماسك" بها؟
في النهاية، من البديهي أن يبرز السؤال عن مصير مئات المليارات التي يمتلكها "ماسك"، خصوصا مع تصريحات "ديفيد بيزلي"، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، عندما قال إن 2% فقط من ثروة ماسك كافية لإنقاذ 42 مليون إنسان من الموت جوعا.
هذا التصريح الذي أطلقه المسؤول الأممي يُعيد السؤال حول الثروات الهائلة التي يحوزها أفراد قليلون حول العالم، وعلى رأسهم "ماسك".
لكن إجابة "ماسك" الوحيدة، حتى وقت كتابة هذه السطور، كانت عبر تغريدة صرَّح فيها عن نيّاته توظيف ثروته قائلا: "خطتي هي أن أستغل هذه الأموال لنقل البشرية إلى المريخ والحفاظ على ضوء من الوعي!".