ألقت الأزمة المالية التي كابدتها الليرة التركية على مدار الفترة من 2016 إلى النصف الأول من عام 2021 بشكل عام، والنصف الثاني من عام 2021 بشكل خاص، بظلالها على مقدرات الاقتصاد التركي، وخلقت حالة من الارتباك في مؤشراته الكلية، ومن الطبيعي أن يتأثر قطاع الادخار بشكل كبير.
وفي ظل هذه العاصفة المالية هب الناس إلى البحث عن ملاذ آمن لمدخراتهم، ولما كان البديل الأول للعملة المحلية، هو النقد الأجنبي، فقد انصرف إليه البعض، وتخوف منه البعض الآخر، لاعتبارات المضاربة، وعدم ثبات قيمته في المدى المتوسط والطويل
ولكن البديل الأفضل لدى قطاع كبير من المدخرين هو الذهب، لذلك اتجه الأتراك منذ فترة ليست بالقصيرة لحيازة الذهب بهدف تأمين مدخراتهم، خصوصًا في عامي 2020 و2021. حتى أن بعض تجار الذهب قدروا حجم مبيعاتهم في شهور 2020 بـ 10 أضعاف ما كانت عليه من قبل.
وهذا يضيف المعنى لخطابات الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" التي دعا فيها مواطنيه إلى "إخراج الذهب المكنوز تحت الوسادة". وقد تناول تقريرٌ حديث لوكالة "الجزيرة" هذا الموضوع بشكلٍ مفصل، فإذا كنتم تتساءلون عن القصة الكاملة للذهب المكنوز عند الأتراك وكيف تخطط الحكومة لاستخدامه تابعوا معنا في السطور التالية...
الأتراك والذهب... قصة تعود بنا إلى قبل 20 عامًا:
تؤكد البيانات المتاحة على موقع وزارة الطاقة والموارد الطبيعية بتركيا، أن نشاط تعدين الذهب بدأ في عام 2001، وأنه تم ضخ نحو 2.5 مليار دولار من قبل مستثمرين محليين وأجانب، وأن تعدين الذهب يوفر 6200 فرصة عمل مباشرة، ونحو 25 ألف فرصة عمل غير مباشرة.
وفي السياق ذاته، صرّح "فاتح دونماز"، وزير الطاقة والموارد الطبيعية بتركيا، مطلع عام 2021، بأن بلاده استثمرت نحو 6 مليارات دولار في تنقيب واستخراج الذهب، وأن القطاع يستوعب 13 ألفا و200 عامل، وأن تركيا لديها 18 منجما لإنتاج الذهب، وثمة مشاريع أخرى، في طريقها للعمل بمناجم جديدة.
وتشير بيانات الوزارة أيضا إلى أن الإنتاج السنوي لتركيا من الذهب في عام 2019 بلغ نحو 38 طنا، وأن لديها احتياطيات من الذهب تمثل نسبة 0.5% من إجمالي الاحتياطيات العالمية، كما أنها تمتلك 2% من موارد الذهب.
ومؤخرًا صرح وزير الطاقة، بأن تركيا أنتجت 40 طنا من الذهب بنهاية 2020، وأن بلاده تستهدف أن يرتفع الإنتاج من الذهب إلى 100 طن، وأن واردات تركيا من الذهب في عام 2020 بلغت 25.2 مليار دولار.
وثمة ملاحظة هامة، يمكن من خلالها استقراء مستقبل ثروة تركيا من الذهب، وهي أن تركيا حينما اعتمدت على الشركات الأجنبية في التنقيب عن الغاز والنفط، حصلوا على نتيجة بعدم وجود ثروات من تلك الموارد، ولكن بعد سنوات، عندما أسند الأمر إلى شركات محلية، وخبرات حكومية، تم اكتشاف آبار الغاز في البحر الأسود، وكذلك آبار النفط في المناطق الشرقية للبلاد.
وهو ما يمكن توقعه بتركيز تركيا بالاعتماد على الشركات المحلية، وخبرات الجامعات ومراكز البحوث في الكشف عن معدن الذهب وغيره من المعادن، مما يؤدي لتحقيق مستهدف وزارة الطاقة والموارد الطبيعية، من إنتاج 100 طن سنويا من الذهب.
الذهب المكتنز تحت الوسادة:
لطالما طالب الرئيس التركي مواطنيه بالاحتفاظ بمدخراتهم بالعملة المحلية، وإدخال الأموال المكتنزة في البيوت في شكل مدخرات ذهبية إلى النشاط الاقتصادي. وقد قدر "أردوغان" المدخرات المكتنزة من الذهب "تحت الوسادة" بنحو 5 آلاف طن، وبما يعادل 280 مليار دولار.
وتأتي أهمية نداء "أردوغان" وتنبيهه إلى هذا الأمر، من أن هذه الأموال شبه مجمدة بنسبة كبيرة، ولا يستفيد منها النشاط الاقتصادي، فلا تخرج من مخازن الناس إلا للضرورة فقط.
ولو أن نصف هذه الكمية الضخمة فقط تم تحويلها للعملة المحلية -أي قرابة 140 مليار دولار- لأحدثت تأثيرا إيجابيا لا يستهان به في الاقتصاد التركي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: "هل الجو الاستثماري في تركيا آمن ومستتب للدرجة التي تشجع الناس على إنفاق مدخراتهم لمآرب استثمارية؟". إجابة هذا السؤال تنقلنا إلى الفقرة التالية:
كيف يمكن لأردوغان إقناع الأتراك بالتوجه من الادخار إلى الاستثمار؟
عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا عام 2016، وجّه الرئيس التركي نداءه للمواطنين بتحويل مدخراتهم من العملات الأجنبية إلى العملة المحلية، وبدء هو بنفسه، بتحويل رصيده البنكي إلى العملة المحلية، وتجاوب معه قطاع ليس بالقليل من المواطنين، وحولوا نحو 10 مليارات دولار للعملة المحلية.
ثم تكررت الدعوة مؤخرا بشكل متكرر، خصوصًا بعد الأزمة التي مرت بها الليرة التركية منذ النصف الثاني من عام 2021. وحتى تنجح دعوة "أردوغان"، ويستجيب لها المواطنون، لا بد أن تتوفر عدة شروط، منها:
أولًا: أن تثبت الحكومة فعالية آليتها الأخيرة لضمان ودائع المدّخرين في البنوك، فتحظى التجربة بثقة قطاع كبير من المواطنين، بحيث يمكنهم الحصول على عائد مجزي، أو على الأقل مناسب، يغطي نسبة التضخم، ويشعرهم بأن ثمة فائض إيجابي يتحقق بتحويل مدخراتهم الذهبية إلى العملات المحلية.
ثانيًا: أن تفتح الحكومة أبوابا للاستثمار، تعتمد على المشاركة وليس سعر الفائدة. حينها سيمكن جذب أصحاب المدخرات من الذهب، وإغرائهم بالدخول فيها، بدلا من اكتناز الذهب، ويفضل أن تكون هذه الاستثمارات طويلة الأجل، سواءً لأصحاب المدخرات الذهبية الحالية، أو المدخرين المحتملين، بحيث تستقطبهم قبل أن يتجهوا لشراء الذهب والاحتفاظ به في البيوت أو في خزائن البنوك.
ثالثًا: سيكون الأمر أفضل، لو أن الحكومة فعلت هذا الأمر بعد الأزمة، بحيث يشعر المجتمع بأنها جزء من منظومته الاقتصادية والاجتماعية، وليس مجرد حل وقتي اضطرتهم له أوضاع الأزمة، وسيكون متمما لهذا الأمر لو أن الرئيس "أردوغان" وكبار المسؤولين ورجال الأعمال، تبنوا حملة لهذا الأمر، وكانوا في مقدمة من يحولون ما لديهم من ذهب للعملة المحلية.