كنا شاهدين خلال السنوات الماضية على انهيار عملات العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط، وحتى خارجها (فنزويلا مثلًا)، وظل يخطر في بال الناس السؤال التالي: "ما الذي يدفع عملة دولة للانهيار فجأة وماذا يحدث وراء كواليس الأزمة الاقتصادية في هذه الأثناء؟".
بدايةً، لا بد من التنويه أن العديد من الناس يخلطون بين تراجع قيمة العملة وانهيارها، فتراجع قيمة العملة قد يكون نتيجة أحداث طارئة، أو عوامل يفرضها الواقع من خلال ضعف الأداء الاقتصادي للبلاد.
ويمكن أن يكون تراجع قيمة العملة متعمدًا (مخططًا له) من أجل تحقيق أهداف اقتصادية لمصالح البلاد. فمثلا، تطالب كل من أميركا والاتحاد الأوروبي -منذ عام 2000- برفع قيمة اليوان الصيني، بينما تحرص الصين على بقاء قيمة عملتها منخفضة، لأن ذلك يساعدها في نجاح استراتيجيتها بالحصول على أكبر حصة من الصادرات السلعية العالمية.
متى يمكن القول إن العملة دخلت في حالة انهيار فعلية إذن؟
يوجد عدة دلالات على ذلك، وقد تطرقت لها وكالة "الجزيرة" في تقريرٍ مفصل، إذ كان أهمها:
- هزيمة البلاد في حروب.
- عدم الاستقرار السياسي والأمني، وهي حالات مشاهدة في وضع العراق واليمن وسوريا ولبنان والسودان والصومال وغيرها.
- فشل السياسة الاقتصادية في كبح التضخم.
- اعتماد البلاد بشكل كبير على الاستيراد، دون وجود صادرات تكافئ الطلب على الدولار للوفاء باحتياجات الواردات.
- تورط البلاد في مديونيات خارجية، وعجز الحكومة عن الوفاء بها.
وخلاصة الأمر، أن مفهوم انهيار قيمة عملة ما، هو تراجع قوتها الشرائية، بحيث يفقد الناس الثقة بها، ويتجهون للتعامل بالعملات الأجنبية، بيعا وشراء، بل حتى في مدخراتهم.
من وجهة نظر اقتصادية... كيف تسير العملة في منحدر الانهيار؟
يحدث ذلك عندما تعجز الدول عن سداد الديون المستحقة عليها، كما حدث في لبنان من عجزه عن سداد قيمة السندات الدولية التي كانت مستحقة عليه في 2019.
وفي مثل هذه الحالة، عادة ما يعلن صندوق النقد الدولي تصنيفا سالبا لوضع هذه البلاد، مما يؤدي إلى عجزها عن الحصول على قروض أخرى من الخارج، وقد يعلن إفلاسها.
كذلك الأمر عند افتقاد البلاد لبعض مواردها الاقتصادية، كنضوب تلك الموارد، أو تقسيم أراضيها، واستحواذ طرف على المورد الرئيس لتدفق النقد الأجنبي، كما حدث في السودان، بعد انفصال جنوب السودان وحصوله على كافة آبار النفط.
أمر آخر هام أيضًا هو اضطراب السياسة النقدية، وعدم مراعاتها لاعتبارات المكونات الأخرى للسياسة الاقتصادية (المالية، والتجارية، والاستثمارية، والتوظيف)، مما يفقدها السيطرة على سعر الصرف، وخاصة إذا كانت هناك منافذ كبيرة ينفذ منها المضاربون ليسيطروا على السوق.
ونتيجة لذلك تغيب الثقة لدى المواطنين في عملتهم المحلية، فيتجهون للحصول على العملات الأجنبية، ويساعد ذلك على إيجاد طلب غير حقيقي على العملات الأجنبية، وهكذا تستمر حالة تراجع قيمة العملة المحلية (تحقق هذا الأمر جزئيا في حالة تركيا إلا أن حالة لبنان كانت الأكثر بروزًا) إلى أن تنجح الحكومة والسلطة النقدية في السيطرة على سوق الصرف، وتبني سياسة اقتصادية ناجحة.
من يستفيد من انهيار أو تراجع عملات الدول؟
في المرتبة الأولى: فئة المضاربين، لأنهم يستطيعون في الأجل القصير والمتوسط لانهيار العملة أن يقوموا بشراء جزء كبير من الأصول الرأسمالية (المصانع، والمزارع، والعقارات، والأراضي، والسيارات، وغيرها) مستغلين حالة عدم الثقة لدى المجتمع، وهم يقومون بذلك بغية إعادة بيع هذه الأصول بأسعار أعلى مما اشتروها به.
الفئة الثانية التي تستفيد من انهيار العملة: المدينون المحليون الذين يجب عليهم الوفاء بمديونياتهم بالعملة المحلية، وعلى رأس هؤلاء المدينين: الحكومات التي تعتمد على الديون في تمويل موازنتها العامة.
أيضا ممن يستفيد من انهيار العملات المحلية، هم أصحاب الدخول بالعملات الصعبة، أو الأسر التي تعتمد على تحويلات أربابها من الخارج، حيث تتوفر لهم كميات من النقود، تساعدهم على مستوى معيشي أفضل من غيرهم.
وهناك فئة تستفيد من تراجع قيمة العملة، لا انهيارها، وهم المصدرون؛ وذلك في حالة تراجع قيمة العملة ووجود قاعدة إنتاجية تساعدهم على الاستفادة من هذه الفرصة، أما إذا لم يتوفر هذا الشرط، فالتراجع وانهيار العملة لا يحققان أي مزايا للمصدرين.