يرى الكاتب هنري أولسون، في المقال الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست الأميركية، أن مشكلة التضخم تضرب أنحاء العالم كافة، وليس الاقتصاد الأميركي فقط، وهذه مسألة تدعو إلى مزيد من القلق.
يُذكر أن الولايات المتحدة تشهد ارتفاعا في معدلات التضخم التي وصلت إلى 5%، لتكون بذلك الأعلى خلال أكثر من 10 سنوات، وهو ما يثير كثيرا من القلق.
ويذكر الكاتب أن الأسعار ارتفعت في الدول كافة خلال العام الجاري، حيث إن نسبة التضخم بلغت 3% في منطقة الاتحاد الأوروبي بعد أن كانت عند مستوى الصفر في يناير/كانون الثاني عام 2020، بحسب بيانات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي.
كما وصلت نسبة التضخم إلى 4.5% داخل مجموعة الدول العشرين، وهي التي تشكل 80% من الناتج المحلي الخام في العالم. وذكرت تقارير رسمية من الصين الأسبوع الجاري أن مؤشر سعر الإنتاج -الذي يستخدم لقياس كلفة البضائع التي تباع للشركات- شهد ارتفاعا بنسبة 10.7% خلال الشهر الماضي.
ويلاحظ الخبراء أن كل هذه المؤشرات في ارتفاع مستمر، ولا توجد أي مؤشرات على تراجعها؛ وهو ما يعني أن التضخم سوف يستمر ويتفاقم في المستقبل.
ما سر هذا التضخم السريع؟
يرى الكاتب أن الخبراء الذين يعزون هذه الظاهرة إلى صدمة الإمدادات المؤقتة يتجاهلون السبب الحقيقي وراءها، إذ إن فيروس كورونا أدى فعلا إلى اضطرابات في سوق العمل وسلاسل الإمدادات، وهو ما أدى إلى نقص مؤقت في البضائع.
لذلك يرى هؤلاء الخبراء أن ارتفاع الأسعار طبيعي في حالة نقص المعروض، وهذا ما يؤدي إلى التضخم، ومع عودة عجلة الإنتاج إلى سالف عهدها، يمكن أن تتبدد هذا المشكلة.
ولكن بحسب الكاتب، فإن صدمة الطلب ونقص الإمدادات ليست السبب الأساسي لظاهرة التضخم التي يشهدها الاقتصاد العالمي الآن، إذ إن المشكلة الحقيقية هي الإجراءات الحكومية التي تم اتخاذها في فترة الوباء بغرض مساعدة القدرة الشرائية للمواطنين.
فالحكومات في عدة بلدان حول العالم بالغت في ردة فعلها تجاه الأزمة الصحية والاقتصادية التي عانت منها، وقامت بصرف مبالغ نقدية سخية للشركات والأفراد، وهو ما أدى إلى تكدس المدخرات لدى العائلات، مع تواصل حالة الغلق العام ومنع النشاطات التي يمكن خلالها إنفاق هذه الأموال.
هذه المعادلة جعلت المبالغ التي يتم ادخارها في الاتحاد الأوروبي -على سبيل المثال- ترتفع بنسبة 25% خلال فترة الوباء، أما في الولايات المتحدة فإن النسبة ارتفعت بفارق 30% عام 2020.
ويضيف الكاتب أن كل هذه الأموال -التي وزعتها الحكومات- ينفقها المواطنون الآن على كل سلع المعروضة، وهذا يظهر من الأرقام القياسية لمبيعات التجزئة في الولايات المتحدة، التي ارتفعت من 20- 25 مليار دولار في سنوات سابقة، إلى 526 مليارا في فبراير/شباط 2020؛ والسبب الأساسي وراء ذلك هو 4 حزمات من الإنعاش المالي الموجه للأسر الأميركية قدمتها الحكومة بدون التأكد من وجود حاجة حقيقية لها.
أما دول العالم الثالث والدول النامية فتكبدت الخسارة الأكبر في كلا الجانبين، فلا حكوماتها كانت قادرة على صرف مساعدات سخية في فترة الوباء، ولا نجت من التضخم في الفترة الحالية.
عدم تناسب الأموال المتوفرة والسلع المعروضة:
في الواقع فحقيقة أن هذا الارتفاع الضخم وغير المسبوق في إنفاق الأميركيين على تجارة التجزئة يأتي في وقت يشهد فيه الاقتصاد تزايدًا في البطالة بفارق 5 ملايين مقارنة بما قبل الوباء، وهو ما يثبت أن التضخم سببه عدم التناسب بين الأموال المتوفرة والسلع المعروضة.
ويتجه الاحتياطي الفدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي نحو مزيد من التشجيع لظاهرة الإنفاق في هذه الاقتصاديات عبر الحفاظ على معدلات فائدة منخفضة، إذ لا يزال الفدرالي الأميركي يعتقد أن الاقتصاد يحتاج إلى التحفيز من أجل التعافي من الانكماش الذي سببه تفشي الوباء، وبالتالي يجب ترك سعر الفائدة عند المستوى صفر.
وبالطريقة نفسها، يفكر بنك الاتحاد الأوروبي -الذي تمسك بنسبة الفائدة نفسها- معتقدا أن هنالك حاجة إلى تشجيع إنفاق المستهلكين، وهي خطوات -يرى الكاتب أنها- "حمقاء"، وتشبه تماما قيام رجال الإطفاء بإلقاء الزيت على النيران المشتعلة بغية إطفائها.
ويوضح الكاتب أن الحكومات عادة ما تتعمد تجاهل ظاهرة التضخم، لأن المدينين دائما ما يستفيدون منها، باعتبار أن الأقساط المستوجبة عليهم تكون ثابتة، أما المبالغ التي يكسبونها فإنها تزيد مع التضخم.
الحكومات تستفيد من التضخم وقد ترغب به:
استدانت الحكومات بشكل كبير لتمويل برامج الإنعاش الاقتصادي، وهو ما أدى إلى وصول ديونها لمستويات غير مسبوقة في التاريخ، ولذلك فإن وصول التضخم إلى 5% يساعدها على تخفيف عبء الدين وإدارة الموازنة بشكل أسهل. وعبر التاريخ، لجأت الحكومات إلى تعمد رفع نسب التضخم أو خفض قيمة العملة، من أجل تلافي تبعات السياسات المالية الخاطئة.
ويحذر الكاتب من أن هذه السياسات ستكون لها تأثيرات سلبية على المواطنين، حيث إن أصحاب المنازل سوف يعانون ارتفاع أسعار الغاز والطعام والإيجار، إلى جانب تراجع الاستثمار وبالتالي تراجع خلق الوظائف الجديدة. وهو أمر ستظهر تبعاته في المواعيد الانتخابية، ومن سيدفع الثمن ليس خبراء الاقتصاد، بل الساسة الذين تبنوا هذه المقاربات الاقتصادية.