عقول الداخل ترسم خارطة التعافي: وزارة الاقتصاد تطلق مقاربة وطنية جديدة

30/04/2025

بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية والعقوبات الدولية والفساد المؤسسي، دخل الاقتصاد السوري في مرحلة من الانهيار الحاد، تاركًا خلفه تحديات هائلة أمام الإدارة الجديدة، وبالأخص أمام الفريق الاقتصادي في الحكومة. وفي ظل هذه الظروف، يُطرح السؤال الجوهري: ما هو مستقبل الاقتصاد السوري بعد إعادة تشكيل المجموعة الاقتصادية؟

طريق شاق... وفرصة قائمة

رغم قسوة الطريق وتعقيداته، لا تزال هناك نافذة مفتوحة لبناء اقتصاد جديد على أنقاض الأزمات المتلاحقة، شرط تضافر الجهود المحلية والدولية بجدية ومسؤولية. السنوات الماضية شهدت شللًا شبه كامل في معظم القطاعات الاقتصادية بسبب الحرب والعقوبات، مما جعل حدوث أي تحسن فوري أمرًا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، فإن التحرك نحو إصلاح مدروس بدأ بالفعل، ويشكّل بارقة أمل.

انطلاقة إصلاحية بقيادة الوزارة

وزير الاقتصاد والصناعة السوري، الدكتور محمد نضال الشعار، أطلق خطوات عملية لإعادة هيكلة العمل الاقتصادي، بدأت بتعيين نخبة من الخبراء المحليين في مناصب استشارية تنفيذية داخل الوزارة. ويهدف هذا التوجه إلى تعزيز الأداء الرقابي، وتطوير كفاءة الأسواق، وتهيئة بيئة اقتصادية قادرة على النهوض.

الكفاءات الجديدة... ملامح فريق اقتصادي بخلفيات علمية وعملية

د. رشا سيروب، تم تعيينها مستشارة لشؤون السياسات وضبط الأداء. تحمل دكتوراه في الاقتصاد من جامعة دمشق، وهي أستاذة جامعية وباحثة نشطة، سبق أن شغلت عضوية مجلس إدارة "جمعية العلوم الاقتصادية السورية" بين عامي 2011 و2015.

د. كرم شعار، عُيّن مستشارًا لشؤون التحول الرقمي والتكنولوجيا. يحمل دكتوراه من جامعة "فيكتوريا ويلينغتون" في نيوزيلندا، ويشغل حاليًا منصب المستشار الاقتصادي الرئيسي في مكتب المنسق المقيم للأمم المتحدة في سوريا. كما عمل باحثًا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن.

د. علاء جبل، مسؤول عن شؤون التدريب والتأهيل، حاصل على دكتوراه في الاقتصاد من جامعة "لينينغراد" في روسيا، وسبق أن شغل منصب عميد كلية الاقتصاد بجامعة حلب. له مؤلفات أكاديمية معتبرة في مجاله.

د. رازي محي الدين، تم تعيينه لشؤون التخطيط والمتابعة. يحمل دكتوراه في الاستثمار والتمويل، ويُدير إحدى شركات حلول الأعمال في سوريا، إلى جانب عمله الأكاديمي في "الجامعة العربية الدولية".

الخبير جورج خزام، يشغل منصب مستشار لشؤون السيولة والنقد، وهو اقتصادي معروف بمقالاته وأبحاثه، ويحمل شهادة في الاقتصاد من جامعة حلب.

مناف قومان، مستشار لشؤون البنية التحتية وإعادة بناء المؤسسات، حاصل على ماجستير في الأسواق المالية من جامعة مرمرة التركية، ويعمل باحثًا في مركز "عمران للدراسات الاستراتيجية".

د. مازن ديروان، عُين مستشارًا أول لوزير الاقتصاد لشؤون التجارة الخارجية. حاصل على دكتوراه في إدارة الأعمال من "الجامعة الأوروبية" في سويسرا، ويمتلك سجلًا طويلًا في تأسيس وإدارة شركات غذائية وصناعية في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا.

بداية مختلفة... فهل تنجح؟

تشكيل هذا الفريق يعكس نية واضحة لنقض أساليب الإدارة القديمة، وتبني نهج يعتمد على العلم، الخبرة، والحوكمة الرشيدة. لكن يبقى التحدي الأكبر في ترجمة هذه النوايا إلى سياسات فعّالة وخطط واقعية، قادرة على استقطاب الاستثمارات، واستعادة الثقة، وإعادة عجلة الإنتاج إلى الدوران.

إعادة هيكلة إدارية... وزارة بثلاث هويات موحدة

في خطوة إصلاحية لافتة، أعلنت وزارة الاقتصاد والصناعة السورية عن هيكليتها الإدارية الجديدة، عقب دمجها لثلاث وزارات رئيسية كانت تُشكل سابقًا ركائز النشاط الاقتصادي الحكومي، وهي:

  • وزارة الصناعة
  • وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك
  • وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية

وجاء هذا الإعلان عبر قرار رسمي صدر في 22 نيسان/أبريل، كجزء من جهود الحكومة لإعادة تنظيم أدواتها الاقتصادية وتخفيف التشظي الإداري.

إدارات عامة جديدة بمهام مستقلة

بحسب القرار، تم إنشاء ثلاث إدارات عامة تتبع مباشرة للوزارة، وتحل محل الوزارات السابقة، وهي:

  • الإدارة العامة للتجارة الداخلية وحماية المستهلك
  • الإدارة العامة للاقتصاد
  • الإدارة العامة للصناعة

وتتمتع هذه الإدارات الجديدة بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، بحيث يتولى كل منها مهام الوزارة التي كانت قائمة سابقًا، ويشرف على كل إدارة نائب مختص عن الوزير، مما يمنحها درجة من اللامركزية التنفيذية دون الإخلال بالاتساق العام في التوجهات والسياسات.

نحو رؤية متكاملة للنهوض الاقتصادي

في موازاة التعديل الإداري، قدم فريق المستشارين الاقتصاديين التابع للوزارة رؤيتهم لإعادة إحياء الاقتصاد السوري، مع التركيز على تحليل التحديات البنيوية الحالية واقتراح أدوات عملية للتعامل معها.
كل مستشار استعرض المساحة التي يختص بها، من التحول الرقمي إلى إصلاح السياسات التجارية والمالية، مرورًا بملفات التدريب والتأهيل، والسيولة النقدية، وإعادة بناء المؤسسات.

رؤى متعددة وأدوات تنفيذية لمواجهة التحديات الاقتصادية

في إطار الهيكلة الجديدة لوزارة الاقتصاد والصناعة، أشار المستشار الأول لشؤون التجارة الخارجية، مازن ديروان، إلى أن المستشارين الذين عيّنهم الوزير لا يعملون بصيغة "النصيحة الكلاسيكية"، بل كأذرع تنفيذية ضمن مجالات اختصاصهم، تنفيذًا لتوجيهات وزير الاقتصاد، د. محمد نضال الشعار.
وفي منشور له عبر "فيسبوك"، أكد ديروان أن الفريق يعمل ضمن استراتيجية اقتصادية جديدة قائمة على مبادئ اقتصاد السوق الحر التنافسي، كبديل جذري عن الاقتصاد الاحتكاري والبيروقراطي الذي ساد لفترات طويلة، وأدى إلى تشوهات في السوق، وارتفاع الأسعار، وإفلاس خزينة الدولة، وانتشار البطالة والفقر.

تحرير التجارة الخارجية... ومواجهة البيروقراطية

وفيما يتعلق بملف التجارة الخارجية، شدد ديروان على أن ازدهار هذا القطاع لن يتحقق دون إزالة العقبات البيروقراطية والمالية، وتسهيل عمليات الاستيراد والتصدير، والتوجه نحو اتفاقيات تجارية ثنائية مع دول راغبة في التعاون مع سوريا، بما يشمل الاعتراف المتبادل بالوثائق الجمركية لتسريع تدفق السلع. كما دعا إلى قياس أداء العاملين في الموانئ والمنافذ الجمركية لضمان سرعة إنجاز عمليات التخليص والتفريغ.

تفكيك الاحتكارات وإلغاء الرسوم الجمركية على المواد الخام

من بين أولويات ديروان أيضًا، تفكيك جميع أشكال الاحتكارات، بما فيها احتكارات النقل، ومنح المصدرين والمستوردين حرية اختيار الخدمات الأنسب لهم. كما طالب بإلغاء الرسوم الجمركية على المواد الخام والنصف مصنعة، لخفض كلفة الإنتاج المحلي، وتعزيز القدرة التنافسية للصناعة السورية محليًا ودوليًا.
وأكد أن مناخ الأعمال الجديد سيكافئ المجتهدين ويقصي من يستندون إلى أساليب الحماية والامتيازات الموروثة، قائلًا:

"البيئة الاقتصادية القادمة ستكون جنة للمبادرين، وجحيمًا لمن اعتادوا الاستفادة من اقتصاد قائم على الاحتكار والجمود".

رؤية متفائلة... ونهضة ممكنة

عبّر ديروان عن ثقته بقدرة الصناعيين والمزارعين السوريين على مواكبة التغيير والتنافس عالميًا، مضيفًا أن سوريا "الحرة" قد تتحول إلى نموذج في الحرية الاقتصادية، بما يجذب الاستثمارات من الخارج ويخلق فرص عمل كافية للقضاء على البطالة.

خسائر ثقيلة... ومهام جسيمة

يأتي هذا في وقت لا تزال فيه الخسائر الاقتصادية الكلية هائلة، حيث قدرت خسائر قطاع النفط والغاز وحده بـنحو 115 مليار دولار، والزراعة بـ 16 مليار دولار، والصناعة بـ 25 مليار دولار. أما السياحة، التي كانت تدرّ ما يقارب 8.5 مليار دولار سنويًا قبل الحرب، فقد تقلصت إلى حد التلاشي.

فرصة تاريخية لإعادة البناء

من جانبه، اعتبر الدكتور رازي محي الدين، المستشار لشؤون التخطيط والمتابعة، أن سوريا تقف أمام فرصة تاريخية لبناء اقتصاد تنافسي وتحقيق نهضة صناعية وتجارية، شرط الاعتماد على التخطيط العلمي الدقيق، والتحول الرقمي، ودعم القطاع الخاص، واستثمار الكفاءات الوطنية.

دعوة جماعية لبناء سوريا جديدة

أما الباحث مناف قومان، مستشار البنية التحتية وإعادة بناء المؤسسات، فرأى أن النهضة الاقتصادية لا يمكن أن تتحقق دون تعاون حقيقي بين الحكومة وكل من يؤمن بمستقبل سوريا.
قال قومان:

"لنصنع معًا نهضة اقتصادية، نموذجًا نفتخر به، لتعود سوريا قوية، مزدهرة، وعزيزة بأيدي أبنائها".

تمويل النهضة الصناعية... من الداخل

وفي سياق التمويل، قدّم الخبير الاقتصادي جورج خزام، مستشار شؤون السيولة والنقد، مقترحًا لإنشاء صندوق إقراض بالدولار يستفيد من الإيداعات الإلزامية للمستوردين للسلع الكمالية ونصف الكمالية.
هذا الصندوق سيوجه حصريًا لتقديم قروض بفائدة منخفضة للصناعيين، بما يسمح بزيادة الإنتاج وخلق فرص العمل، وتخفيض الاعتماد على الاستيراد غير المنتج.
يرى خزام أن النتيجة المباشرة ستكون:

  • تراجع الطلب على السلع الكمالية
  • ارتفاع الطلب على المنتج المحلي
  • خفض الطلب على الدولار
  • زيادة في عدد المصانع والورشات

في النهاية: اختبار حاسم للمجموعة الاقتصادية

أمام المجموعة الاقتصادية الجديدة تحدٍّ مزدوج: من جهة، معالجة إرث ثقيل من الدمار والفساد والتضييق الاقتصادي؛ ومن جهة أخرى، إثبات قدرة الدولة على قيادة عملية إصلاح جادة وشاملة تفتح الأبواب أمام الاستثمار، وتعيد بناء الثقة، وتضع سوريا على مسار جديد من الاستقرار والازدهار.

شارك رأيك بتعليق

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات متعلقة: