أعلنت حكومة تصريف الأعمال في سوريا عن زيادة رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 400% اعتباراً من الشهر المقبل. هذه الزيادة تتطلب تمويلاً شهرياً يقدر بـ1.65 تريليون ليرة سورية، أي ما يعادل حوالي 127 مليون دولار، وفقاً لتصريحات وزير المالية "محمد أبازيد" لوكالة "رويترز".
ورغم أن النسبة تبدو ضخمة، إلا أن قيمتها الفعلية تبدو متواضعة عند احتسابها في ظل التدهور الحاد الذي شهدته العملة السورية منذ عام 2011. ففي ذلك العام، كان سعر صرف الليرة مقابل الدولار 47 ليرة فقط، لكن العملة انهارت على مدى السنوات لتصل إلى نحو 16 ألف ليرة للدولار عشية سقوط النظام السابق. ومع تحسن طفيف، يتم تداول الليرة حالياً في مستويات 13 ألف ليرة للدولار وفق بيانات البنك المركزي السوري.
إلا أن هذه الخطوة تأتي في سياق اقتصادي مثقل بأزمات عديدة؛ سنوات الحرب الطويلة دمرت البنية التحتية، فيما زادت العقوبات الاقتصادية من عزلة البلاد وعطّلت مختلف القطاعات. وفي ظل وجود حكومة مؤقتة تولت مهامها حديثاً، أثيرت تساؤلات جدية حول قدرة الدولة على تمويل هذه الزيادات.
الباحث في الشؤون الاقتصادية "مازن إرشيد" أوضح في حديثه لـ"بلومبرغ الشرق" أن الحكومة تواجه أزمة مالية خانقة، في ظل انخفاض الإيرادات وارتفاع النفقات. واعتبر أن تمويل الزيادات عبر موارد اقتصادية حقيقية مثل زيادة الصادرات أو جذب الاستثمارات يبدو غير وارد حالياً بسبب حجم الدمار والقيود الاقتصادية المفروضة على البلاد.
هذه الزيادة، وإن بدت كخطوة لتحسين معيشة الموظفين، قد تفتح الباب أمام تحديات أكبر إذا لم يتم تأمين مصادر مستدامة لتمويلها، ما يهدد بزيادة الضغوط على الاقتصاد السوري المتداعي.
إعفاءات أميركية مرتقبة وخطط مالية جديدة:
على الجانب الآخر قد يشهد الوضع الاقتصادي في سوريا تحسناً أسرع مما توقعه كثيرون، إذ أشارت تقارير حديثة إلى أن وزارة الخزانة الأميركية قد تصدر قريباً رخصة عامة لتعليق العقوبات على سوريا مؤقتاً. وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، يُتوقع صدور "إعفاءات محدودة" اليوم تهدف إلى تسهيل تقديم المساعدات الإنسانية دون السماح بالتعاون المباشر مع الحكومة السورية أو تقديم دعم لها.
على الصعيد المحلي، أعلنت رئاسة مجلس الوزراء السوري يوم الأحد عن اعتماد مبدأ الموازنة الإثني عشرية للسنة المالية 2025، استناداً إلى اعتمادات عام 2024، بهدف تحقيق الاستقرار المالي وسط تحديات اقتصادية خانقة.
تفاصيل القرار الحكومي
بحسب بيان نقلته وكالة الأنباء الرسمية "سانا"، يتيح القرار تجاوز الاعتمادات الشهرية المخصصة للرواتب والتعويضات لتغطية المبالغ المستحقة فعلياً للموظفين في الوزارات والجهات العامة. كما شمل القرار تعديل الاعتمادات المخصصة لبند المحروقات، مثل البنزين والمازوت، لتتناسب مع الأسعار الجديدة.
رغم هذه المرونة في توزيع الاعتمادات، أكدت الحكومة أن القرار يهدف إلى تغطية النفقات الأساسية والضرورية فقط، وفي أضيق الحدود، لضمان ضبط الإنفاق العام.
ما هي الموازنة الإثني عشرية؟
تعتمد الموازنة الإثني عشرية عندما يتعذر على مجلس النواب إقرار الموازنة العامة قبل شهر من بداية السنة المالية الجديدة. بموجب هذا النظام، يتم الإنفاق على أساس شهري يعادل جزءاً واحداً من 12 جزءاً من موازنة العام السابق. ورغم اسمها، فإن العمل بهذا النظام غالباً ما يكون مؤقتاً ويقتصر على شهر واحد، لضمان تسيير الأعمال الحكومية حتى إقرار الموازنة الجديدة.
انعكاسات محتملة:
في ظل هذه التطورات، قد تمنح الإعفاءات الأميركية المرتقبة متنفساً إضافياً للاقتصاد السوري، لا سيما إذا تمكنت الحكومة من استغلالها لتخفيف الضغط عن القطاعات المتضررة دون خرق الشروط الأميركية. أما على المستوى الداخلي، فإن اعتماد الموازنة الإثني عشرية يعكس رغبة الحكومة في تحقيق الاستقرار المالي، لكنه أيضاً يعكس محدودية الموارد المالية المتاحة، مما يعكس حجم التحديات التي تواجهها البلاد.
التوجه الحكومي الجديد: رفض طباعة النقود
رغم أن طباعة المزيد من العملة قد تبدو حلاً سهلاً لتغطية زيادات الرواتب، فإن الخبراء يؤكدون أن هذه الخطوة ستكون "كارثية" على الاقتصاد السوري. وفقاً للباحث الاقتصادي مازن إرشيد، فإن طباعة النقود دون زيادة مقابلة في الإنتاج ستؤدي إلى ارتفاع كبير في المعروض النقدي، مما يساهم في انهيار قيمة الليرة وزيادة معدلات التضخم. هذا التضخم سيؤدي بدوره إلى تآكل الأجور وزيادة معاناة المواطنين، حيث يعيش 90% من السوريين تحت خط الفقر بحسب تقارير الأمم المتحدة.
وقد أكد مصدر مطلع في وزارة المالية لـ"بلومبرغ الشرق" أن الحكومة المؤقتة لن تعتمد على طباعة العملة كوسيلة لتمويل زيادات الرواتب. وأوضح المصدر، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، أن الحكومة تدرك جيداً خطورة هذا الخيار، خاصة أنه كان السبب الرئيسي وراء الانهيارات السابقة في قيمة الليرة السورية خلال حكم النظام السابق.
تمويل الزيادات من خلال تدقيق قوائم الموظفين:
بدلاً من طباعة النقود، اختارت الحكومة المؤقتة تمويلاً يعتمد على الفائض الناتج عن تدقيق كشوفات الموظفين في القطاع العام. وفقاً للمصدر، أظهرت الكشوفات أن عدد الموظفين المسجلين يبلغ حوالي 1.25 مليون شخص، لكن التدقيق كشف أن العدد الفعلي لا يتجاوز 700 ألف موظف، العديد منهم غير فعّالين.
التحقق من هذه الأعداد ساهم في تحقيق فائض مالي يغطي ما بين 70% إلى 75% من تكاليف زيادات الرواتب. أما الجزء المتبقي، فسيتم تمويله من احتياطيات الليرة السورية التي تسلمتها الحكومة المؤقتة من البنك المركزي.
آثار الإجراء على المدى القريب:
رغم أن هذه الخطوات قد تخفف الضغط على الموازنة، إلا أنها تبقى حلاً قصير الأجل في ظل اقتصاد يعاني من انكماش وضعف في النشاط التجاري. وتبقى التساؤلات قائمة حول كيفية تمويل الحكومة لهذه الزيادات مستقبلاً، وما إذا كانت ستتمكن من تحفيز النشاط الاقتصادي لتخفيف الأعباء على المدى الطويل.
هذا القرار يظهر التزام الحكومة المؤقتة بمحاولة تحقيق الاستقرار المالي دون اللجوء إلى حلول قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية. ومع ذلك، تبقى التحديات هائلة، خصوصاً في ظل غياب إصلاحات اقتصادية شاملة أو دعم دولي فعّال.
الاحتياطات النقدية في سوريا: تناقض الأرقام والأولوية لإنعاش الليرة
تتباين التصريحات حول حجم الاحتياطيات النقدية في سوريا، وسط أزمة اقتصادية خانقة وارتفاع الحاجة إلى مصادر تمويل مستدامة. رئيس حكومة تصريف الأعمال، محمد البشير، صرّح بأن خزائن البنك المركزي تحتوي فقط على أوراق نقدية بالليرة السورية، مع غياب السيولة الكافية بالعملات الأجنبية.
من جهة أخرى، نقلت وكالة رويترز عن مصادر أن احتياطيات الذهب في سوريا تبلغ حوالي 26 طناً، تُقدر قيمتها بنحو 2.2 مليار دولار. كما أفادت الوكالة بوجود "مبلغ نقدي صغير" من العملات الصعبة، لا يتجاوز 200 مليون دولار.
على النقيض، أكد مصدر مطلع أن عملية حصر الاحتياطيات ما زالت جارية، مع الإشارة إلى أن الأرقام النهائية قد تكون أعلى من تلك التي أوردتها التقارير. وأضاف المصدر أن الأولوية الحالية للحكومة تتمثل في دعم وتعزيز قيمة الليرة السورية عبر مجموعة من الإجراءات المالية والاقتصادية.
خطط الحكومة لإنعاش الاقتصاد:
بحسب المصدر، تتجه الحكومة المؤقتة نحو خطوات استراتيجية لإعادة الاستقرار المالي، تشمل:
- ضبط الموارد وتوجيهها نحو الخزينة العامة: لضمان استخدامها بفعالية في تمويل الاحتياجات الأساسية ودعم الاقتصاد المحلي.
- ملاحقة الأموال المجمدة في الخارج: محاولة استرداد الأصول السورية المحجوزة دولياً لتعزيز الاحتياطيات.
- جذب الاستثمارات الأجنبية: تحسين مناخ الاستثمار في السوق المحلية لجذب رؤوس أموال جديدة.
التحدي الأكبر: تضييق الفجوة المالية
رغم هذه الجهود، يواجه الاقتصاد السوري تحديات هائلة تتمثل في ضعف الإنتاج المحلي، ارتفاع معدلات التضخم، وتأثير العقوبات الدولية. إنعاش الليرة يعتمد بشكل كبير على نجاح الحكومة في إعادة بناء الثقة الاقتصادية واستقطاب الدعم الخارجي، سواء من خلال المساعدات الإنسانية أو الاستثمارات.
وتبقى التساؤلات قائمة حول قدرة هذه السياسات على مواجهة ضغوط السوق وضمان استدامة التمويل اللازم لتحسين معيشة المواطنين في بلد يعاني من أزمات مركبة.
شارك
