لطالما كانت مشكلة التسوق القهري أمرًا يلاحق البشر ويزعجهم منذ بداية عصر الرأسمالية الحديثة، لكن الفرق حاليًا أنه كان بوسعنا فيما مضى الحديث عن طرق بسيطة نوعا ما لمقاومة الرغبة في الشراء؛ مثل لا تذهب للتسوق إلا إذا كنت في حاجة إلى شراء شيء بعينه، لا تذهب وأنت جائع، ولا تتجول في المتاجر أيام التخفيضات ما لم تكن تبحث عن شيء معين.
لكن مهمتنا تزداد صعوبة في عصر يمكننا التسوق فيه طوال 24 ساعة يوميا، من المنزل، ودون أن نتكلف حتى عناء البحث عن السلع التي تلوح لنا في إعلانات لا تتوقف عبر الإنترنت.
من الصعب فعلا في عالم اليوم مقاومة الاندفاع إلى الشراء، خاصة أمام مستويات جديدة من التلاعب تلجأ إليها المتاجر عبر الإنترنت، فأنى لك أن تواجه وحدك تكتيكات نفسية وضعها خبراء بعناية فائقة لتغريك بإنفاق أكبر قدر ممكن من المال؟!
الأنظمة المظلمة للتسويق... سرقة بشكل لطيف:
في دراسة نشرتها مجلة "Proceedings of the ACM on Human-Computer Interaction" عام 2019، تناول الباحثون ما سمّوه بـ"الأنماط المظلمة" (Dark Patterns) التي تستخدمها المنصات الرقمية ومواقع التسوق لإكراه أو توجيه أو خداع المستخدمين ودفعهم لاتخاذ قرارات غير مقصودة وقد تكون ضارة أحيانا، مثل الاشتراك في خدمات أو إجراء عمليات شراء غير مرغوب فيها، أو خداعهم للكشف عن عدد كبير من البيانات الشخصية، أو دفعهم لسلوك قهري مثل الإدمان.
وكشف الباحثون كيف تُسيء الشركات استخدام القيود والتحيزات المعرفية من أجل الربح فيما أطلقوا عليه "التلاعب بالسوق". يحدث ذلك من خلال دفع المستخدمين لاتخاذ قرارات مختلفة من المعلومات نفسها بناءً على الكيفية التي تُقدَّم لهم بها تلك المعلومات، إلى جانب أنماط مثل الإلحاح باستخدام العدّ التنازلي الذي يحذر من انتهاء عرض التخفيض على سلعة ما.
تبدأ الحيل النفسية باستخدام الألوان الجذابة، وتتقدم لتعرف كل ما تهتم به، يستخدم المعلنون أداة "فيسبوك بيكسل" (Facebook Pixel) لجذب انتباه العملاء المحتملين، فيتتبَّعون الصفحات التي تزورها للتعرف على السلع التي شاهدتها ولم تشترِها بعد، هذا هو السر في أن فيسبوك يعرف ما تنوي شراءه ويحاصرك بإعلانات عنه.
بعدها تسعى الإعلانات إلى إقناعك بأن اقتناء السلعة ذات العلامة التجارية المعروفة هذه أو تلك سيمنحك التميز، وستكون منتميا إلى جماعة من المميزين، فلماذا لا تنقر على "الشراء" لتصبح أحد أفراد تلك المجموعة.
يكون لوضع السعر أيضا سر آخر في إقناعك، إذ يستخدم المعلنون التسعير النفسي بحيله المتعددة التي تضمن استجابة اللاوعي وتشجع على الشراء، ومن بينها مثلا وضع الرقم "599" بدلا من "600".
ذلك إلى جانب حيل أخرى منها تثبيت سعر أعلى في ذهن العميل أولا، فيبدأ الإعلان بمنتج باهظ الثمن ليبدو لك أن هذا هو سعره الحقيقي؛ بذلة رياضية بسعر 1500 على سبيل المثال، ثم يعرض لك الإعلان بذلة أخرى بسعر 1200، فتبدو لك صفقة جيدة، وتصبح بسهولة أكثر اقتناعا وإقداما على الشراء مما لو شاهدت إعلان البذلة الثانية وحده.
يتبع المعلنون تقنية أخرى لدفعك لاتخاذ قرار بشكل أسرع، يُقدِّم الإعلان أحيانا وقتا محدودا قبل انتهاء عرض التخفيض أو عدد القطع المتاحة من المنتج، يغريك بالشراء حتى لا تفوِّت الفرصة، وساعتها تكون الندرة والخوف من فوات الفرصة هي ما يدفعك لاتخاذ قرار الشراء.
كما تستدعي الإعلانات الأشخاص ذوي الهيبة والسلطة لمزيد من التأثير؛ طبيب بمظهر جذاب يرشح منتجا ما، إنه ما يُطلق عليه "تأثير المعطف الأبيض" (White Lab Coat Effect)، وهو يضمن استجابة سهلة، ويجعلك أكثر استعدادا لشراء المنتج بأقل قدر من البحث وبكثير من الثقة؛ عبارة مثل "9 من كل 10 أطباء يوصون به" تقطع مسافة طويلة في إقناعك، وبسهولة.
وتتمثل آخر الحيل في إرغامك على مشاهدة الإعلان لعدد من الثواني، في الفيديوهات مثلا، أو عرض جزء الإعلان ومن ثم إتاحة خيارين لك؛ عرض باقي الإعلان أو إلغاؤه، يعتمد المعلنون هنا على أنك بنسبة كبيرة ستضغط على عرض الإعلان إذا كنت مهتما.
لكن كيف يمكن لنا مواجهة هذه الحيل المحكمة التي نسجها خبراء وأخصائيون في علوم النفس والتسويق، لنسلم بأموالنا ولا ننفق بشكل قهري؟
أولًا: لا تدع سعادة الدوبامين تخدعك
يمنحنا التسوق الإلكتروني إشباعا فوريا لم نختبره سابقا لكل رغباتنا، بوسعك اقتناء ما ترغب به في التو واللحظة، تغمرك السعادة مرتين في الحقيقة؛ مرة عند النقر فوق "شراء" والأخرى بعد أن يصل إليك المنتج، هكذا يغمرك الدوبامين مرتين وتشعر بالرضا.
ماذا إذا ظهر لك للتو إعلان جذاب لشراء قطعة ملابس أو زوج من الأحذية، وانتابتك رغبة عارمة في الشراء؟ حسنا، أضفه إلى قائمة الرغبات مؤقتا وتمهَّل. وبعد أن تجمع العناصر التي تود اقتناءها في سلة التسوق عبر الإنترنت وقبل إتمام أي عملية شراء، انتظر مثلا يوما أو يومين لتُقرِّر ما إذا كانت ضرورية أم لا، قبل أن تُقْدِم على الشراء اسأل نفسك: هل أحتاج إلى هذا حقا؟ هل لدي شيء مشابه؟ لماذا أقوم بهذا الشراء؟
تذكَّر هنا أن الاعتياد على الإشباع الفوري، خاصة باستخدام بطاقات الائتمان، يعني معاناة الألم المتأخر لهذا الإنفاق غير الضروري
يمكن أن يفيدك هنا أيضا تذكُّر ما أشار إليه الكاتب آلان دو بوتون في كتابه "قلق السعي إلى المكانة" حول عجز أي غرض مادي عن تغيير مستوى سعادتنا لفترة طويلة، إذ سرعان ما تصبح أي سلعة مهما كانت كبيرة ومهمة، "شأنها شأن إحدى العجائب الأخرى التي امتلكناها من قبل، قابعة في الخلفية المادية لحياتنا وتندمج ذائبة فيها ولن نلتفت لوجودها إلا قليلا".
ثانيًا: كن بطيئًا باتخاذ القرار
اكتب قائمة بما تحتاج إلى شرائه قبل التجول في أحد المواقع بهدف الشراء، وحدِّد الوقت الذي ستفتح فيه الموقع وتُسجِّل ما تود شراءه؛ نقصد هنا أن تحدد يوما أو أسبوعا واحدا مثلا لتصفح مواقع التسوق، وسوى ذلك أزِل التطبيقات من هاتفك ولا تنجرف للتسوق في أي وقت.
تجنَّب التسوق لمجرد التسوق في مواسم مثل الجمعة البيضاء في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وفي الأعياد حين تطالعنا المتاجر بإعلانات الخصومات والتخفيضات، إذ غالبا ما تخرج بأشياء لم تكن تنوي شراءها، لكن الإحساس بأن الفرصة لا تُعوَّض يدفعك إلى شراء سلع لست في حاجة إليها لأنها لن تكون متوفرة -في اعتقادك- عندما تريدها، هكذا تتوسع القائمة التي حددتها سلفا وتمتلئ السلة بمشتريات أخرى.
في النهاية فإن الاستمتاع بالتسوق لا يعني أنك متسوق قهري، هناك أعراض تُشير إلى التسوق القهري، من بينها الانشغال بالتسوق وقضاء وقت طويل فيه، وصعوبة مقاومة الرغبة في شراء شيء ما، وتكديس أشياء غير ضرورية، ومواجهة المشكلات العاطفية بمزيد من الشراء، والإنفاق بشكل يفوق القدرات المادية مما يؤدي إلى مشكلات مالية وزوجية أحيانا أو مشكلات في العمل، وأخيرا حالة من الندم تعقب السعادة الغامرة التي يسببها الاقتناء.