يواجه بعض الناس صعوبةً في فهم طبيعة تراجع القيمة الشرائية للعملة بمرور الوقت، فيعتقدون خطئًا أن الأمر متعلق بسعر الصرف مقابل الدولار فحسب، وهو اعتقادٌ خاطئ جملةً وتفصيلًا، لأنه مبني على أساس أن الدولار عملة ذات قيمة ثابتة وأداة مالية للقياس.
الحقيقة أن الدولار بحد ذاته يفقد بشكل مستمر من قيمته الشرائية، وذلك بغض النظر عن انخفاض أو ارتفاع مؤشر الدولار مقابل باقي العملات. فإذا ظننتم أن ارتفاع مؤشر الدولار يعني أن قدرة العملة الأمريكية على شراء كمية معينة من السلع باتت أكبر فيؤسفنا إخباركم أن هذا الاعتقاد خاطئ أيضًا.
ولنا فيما طرأ حديثًا على الاقتصاد العالمي خير مثال، فالدولار بلغ أعلى سعر له مقابل سلة من العملات منذ عقدين أو يزيد، لكن قيمة النقود الشرائية في يد المواطن الأمريكي باتت أقل من أي وقتٍ مضى.
القصة كلها تتعلق بمصطلحين هما: القردة الشرائية – التضخم. وهما مصطلحان نسمعهما دائمًا لكن القليل منا من يمتلك التصور الكامل والصحيح عن معناهما.
ما هي القدرة الشرائية وهل يفهم الناس هذا المصطلح بشكل صحيح؟
يشرح لنا الخبراء، أن القدرة الشرائية هي مصطلح يستعمل دوماً للتعبير عن حجم الاقتصاد الوطني ومدى قدرة الأفراد على التكيف مع مؤشراته.
مثلًا: عندما تكون القدرة الشرائية للعملة الوطنية مرتفعة، يعني أنّ المواطنين أو المستهلكين، يعيشون في بحبوحة اقتصادية. ولكن عندما تنخفض هذه القدرة الشرائية فهذا يعني أنّ ثمة أزمة اقتصادية على الأبواب.
وهكذا فيقاس التطور الاقتصادي في بلد ما عادةً بالاستناد إلى تطور مستوى معيشة سكان هذا البلد، والذي يشمل الأجر مع قيمته الحقيقية والخدمات العامة المختلفة من تعليم وصحة وسكن وغيرها.
كما يتم قياس التطور الاقتصادي من خلال أرقام الدخل القومي التي يمكن لها أن تحدد القدرة الشرائية للمواطنين، وذلك من خلال قياس الناتج المحلي ربطاً بعدد السكان.
ويحدد القدرة الشرائية للأفراد نصيب الفرد من إجمالي الدخل المُتاح داخل البلد، كالأجور والفوائد الأرباح، بالإضافة إلى المستوى العام للأسعار.
أخيرًا، إذا أردنا صياغة الأمر بتعريف علمي، فنقول إن القدرة الشرائية هي مقدار السلع والخدمات، أو كميتها، التي يمكن شراؤها من خلال كمية محددة من النقود.
لماذا تنخفض القدرة الشرائية وبماذا تتأثر؟
ترتبط القدرة الشرائية للمواطنين بالعديد من العوامل، أهمها سعر صرف العملة ومعدل التضخم في البلاد. فكلما ارتفع معدل التضخم، قل عدد السلع والخدمات التي يمكن أن تشتريها الوحدة النقدية من العملة، وكلما ارتفع سعر العملة، زادت القدرة الشرائية، والعكس بالعكس.
يعود ضعف القدرة الشرائية بالأصل إلى سببين: الأول سبب محلي مستمر، وهو انخفاض مستوى الدخل العام للمواطنين، والثاني خارجي وطارئ وهو الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار سلع أساسية عالمياً.
وفي غالب الأحيان، تنخفض القوة الشرائية للنقود في ظل استخدام العملة النقدية الورقية عند قيام الدولة بطبع المزيد من العملات النقدية الورقية وإنفاقها على مجالات غير إنتاجية (استهلاكية).
وهذا الإنفاق الاستهلاكي للدولة يمثل زيادة في الدخل النقدي من دون أن يقابل ذلك أي زيادة في إنتاج السلع مما يتسبب في ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات ويؤدي إلى التضخم.
في المقابل، فإنّ تقوية العملة الوطنية ورفع قيمتها سيؤديان تلقائياً إلى تحسن القدرة الشرائية للمواطنين. وقد يحصل ذلك أيضاً من خلال ضخّ قروض استهلاكية في شرايين الاقتصاد تؤدي إلى زيادة السيولة بين أيدي المواطنين وبالتالي تحسّن قدراتهم الشرائية وتمكينهم من شراء الحاجات الأساسية وفق مستوى الراتب الذي يتقاضونه، شرط ضبط مستويات التضخم المحققة.
أما وقد تردد مصطلح التضخم كثيرًا في تعريف القدرة الشرائية، فلا بد من الإشارة إلى تعريفه وشرح فرقه عن ارتفاع الأسعار التقليدي الذي نعرفه جميعًا.
ماذا نعني بالتضخم؟
في الواقع إن مصطلح التضخم سهل وواضح إلى حد بعيد، لكنه في نفس الوقت يحمل جانبًا يتسم بالتعقيد والغموض لدرجة تربك حتى كبار الاقتصاديين والخبراء.
ليس من السهل تحديد متى يصبح ارتفاع الأسعار تضخما، ويمكن القول إن هناك تضخما عندما ترتفع الأسعار المحلية بشكل أسرع من ارتفاع الأسعار العالمية، لكن ذلك ليس تعبيرًا دقيقًا فالتضخم العالمي الذي لا يحدث في دولة واحدة بل في العالم ككل أحد أنواع التضخم الهامة أيضًا.
بالإضافة إلى ذلك، هناك جانب اقتصادي سلوكي للتضخم، حيث يمكن أن يصبح نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها، بمعنى عندما ترتفع الأسعار فترة طويلة بما فيه الكفاية، يبدأ المستهلكون في توقع ارتفاع الأسعار أكثر.
ستشتري مزيداً من السلع اليوم إذا كنت تعتقد أن ثمنها سيزداد غداً، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الطلب ومعه ارتفاع الأسعار، وهلم جرًا.
ما الفرق بين التضخم وارتفاع الأسعار؟
إن الكلمة المفتاحية لفهم المسألة هي أن التضخم يحدث "على نطاق واسع"، ففي أي لحظة قد تتعرض سلعة ما لطلب متزايد نتيجة فيديو دعائي على قام به أحد المشاهير مثلاً، وبينما يرتفع ثمنها ينخفض ثمن شيء تراجع الطلب عليه، وهذه التقلبات ثابتة وطبيعية، وهي ليست تضخمًا.
أما التضخم فيحدث عندما يرتفع متوسط سعر كل شيء يشتريه المستهلكون تقريباً؛ الغذاء والمنازل والسيارات والملابس، وحتى لعب الأطفال وما إلى ذلك، ولتوفير هذه الضروريات، يجب أن ترتفع الأجور أيضاً.
ويتم تعريفه علميًا على الشكل التالي:
"التضخم هو انخفاض القوة الشرائية لعملة معينة بمرور الوقت. يمكن أن ينعكس التقدير الكمي للمعدل الذي يحدث به انخفاض القوة الشرائية في زيادة متوسط سعر سلة من السلع والخدمات المختارة في اقتصاد ما خلال فترة زمنية معينة. إن الارتفاع في المستوى العام للأسعار، الذي يتم التعبير عنه غالباً كنسبة مئوية، يعني أن وحدة العملة تشتري فعلياً أقل مما كانت عليه في الفترات السابقة".
أما التعريف البسيط: التضخم الاقتصادي هو زيادة واسعة النطاق ومستمرة في أسعار السلع والخدمات في البلاد على مدى فترة طويلة من الزمن.
ولا مناص من الاعتراف أن التضخم يحدث غالبًا ليس لأن السلعة بحد ذاتها قد زاد ثمنها أو نقص وجودها، بل لأن الأداة المالية التي تشتري هذه السلعة (العملة) قد أصبحت أضعف وأقل موثوقيةً.
معادلة التضخم:
البنك المركزي يشتري سندات الديون من الحكومة ---> الحكومة تحصل على مزيد من الأموال لضخها في الأسواق ---> الأموال الجديدة تخلق مزيدًا من الطلب على السلع ---> المُنتِج يرفع سعر السلعة بدلًا من زيادة الإنتاج ---> تفقد الأموال الجديدة قيمتها ويحصل التضخم.
إذا حصل التضخم في عملة مرجعية كالدولار فهذا يعني أن الدول التي تحفظ احتياطي النقد الخاص بها بغطاء من الدولار ستخسر، وإذا لم يحصل تضخم بالدولار بل ارتفعت قيمته فهي أيضًا ستخسر لأن عملتها الوطنية ستصبح أضعف مقابل المقياس الأجنبي، والديون المترتبة عليها ستصبح أكبر.
"إذا كنت تعتقد أن الدول لا ترغب بالتضخم فأنت مخطأ... التضخم أداة سياسية، ولولا التضخم لما استطاع الحكام أن يخلقوا الأموال من لا شيء لكي يحصل عليها أصحاب النفوذ والسلطة مقابل تآكل موارد الشعب."
كيف يمكن أن تأتي الأموال من العدم؟
بدايةً، دعنا نطرح عليك هذا السؤال: الذهب يحتاج إلى تعدين ومناجم لاستخراجه، والبيتكوين يحتاج عمليات برمجية معقدة وصعبة تسمى بالتعدين الإلكتروني أيضًا، إذن ماذا تحتاج العملات الحكومية كالدولار واليورو من أجل طباعتها وطرحها في السوق؟
لن نجيب على هذا السؤال بكلام علمي مقعر قد يتعسر فهمه، بل سنطرح مثالًا من المفترض أن يكون لم يغب عن أذهاننا بعد ما حدث في الولايات المتحدة عام 2020، وقد شرحته منصة TED الشهيرة في إحدى محاضراتها نلخصها لكم:
في مارس/ آذار 2020، هزت جائحة كوفيد-19 أركان الاقتصادات في كل دول العالم. حيث فقدَ ملايين الأشخاص وظائفهم وصارعت العديد من الشركات من أجل النجاة أو أغلقت بالكامل.
وكانت استجابة أغلب الحكومات هي منح أحد أكبر حزم الإغاثة الاقتصادية على مر التاريخ. إذ أنفقت الولايات المتحدة لوحدها 2.2 تريليون دولار في المرحلة الأولى من الإغاثة. إذن من أين أتت كل هذه الأموال؟
بشكل تقليدي، ومع توفر المزيد من السيولة في أيدي الناس، يمكن لمصنعي السلع مثل المواد الغذائية والملابس والسيارات الاستجابة للطلب برفع الأسعار ببساطة، بدلاً من تصنيع المزيد من هذه السلع وخلق وظائف جديدة نتيجة لذلك. ومعنى ذلك أنه لم يعد بإمكانك شراء نفس القدر من السلع بنفس المبلغ، وهذه حالة تعرف باسم التضخم.
لأن الأسلوب التقليدي له نتائج سلبية مباشرة وسريعة، فقد جربت البنوك المركزية نهجاً يسمى التيسير الكمي لحقن الاقتصاد بالنقود مع الإبقاء على مخاطر تضخم حاد منخفضة. في هذا النهج يرفع البنك المركزي من التدفق النقدي عن طريق شراء سندات كيان آخر.
السندات بتعريفها البسيط، هي أصول مالية تشترى من الحكومة أو من جهة غير حكومية، بهدف تمويل هذه الجهة بالسيولة مقابل الحصول على سند يضمن لك استرداد المبلغ الذي دفعته مع فائدة محددة تسمى العائد على السند.
حينما تشتري سنداً مالياً، فأنت بذلك تقرض المال للشركة أو الحكومة، ولهذا يشار أحياناً لشراء السندات بشراء الديون.
عندما يشتري الفرد سنداً مالياً فإنه بذلك يستخدم أموالاً متداولة أصلاً. ولكن خمنوا ماذا سيحدث عندما يشتري البنك المركزي السندات؟
الجواب ببساطة أنه حينها يستحدث نقوداً من العدم، موفراً بذلك أموالاً لم تكن موجودة من قبل مقابل سندات.
خلال الأزمة المالية لعامي 2008 و2009 ومرة أخرى في 2020، اشترى البنك المركزي في الولايات المتحدة، المسمى بالاحتياطي الفدرالي، سندات من حكومة الولايات المتحدة تسمى سندات الخزينة. وعلى مر التاريخ، اشترى كثير من الناس هذه السندات بصفتها استثماراً آمناً، مع العلم أن حكومة الولايات المتحدة ستسددها مع الفائدة.
في أوائل 2020، تعهد الاحتياطي الفيدرالي بشراء سندات خزينة غير محدودة، وإقراض الحكومة الأمريكية مبلغاً غير مسبوق من المال، وهي أموال نقدية استخدمتها الحكومة لتمويل جهود الإغاثة مثل شيكات التحفيز وإعانات البطالة.
هذا لا يعادل طباعة النقود ببساطة، رغم أنه قد يبدو مشابها لذلك. بسبب طريقة تسعير السندات، بشراء الكثير منها، خفّض الاحتياطي الفيدرالي العائد عليها بفعالية، وأصبح الاقتراض أسهل من أي وقتٍ مضى.
لكن الورطة التي وقع بها الفيدرالي أنه علق بأسعار فائدة منخفضة، وحاليًا فإن العالم يدفع ثمن رفع الفائدة كل مرة غاليًا رغم أن كل هذه الرفوعات لم تصل لأن تقضي على التضخم.
إن تعهد الاحتياطي الفيدرالي بشراء ديون حكومية غير محدودة أثار بعض التساؤلات والاستغراب. يعني هذا من الناحية النظرية أن الحكومة يمكن أن تُصْدر المزيد من السندات والتي سيشتريها البنك المركزي. يمكن للحكومة بعدها استخدام الأموال المحصلة من السندات الجديدة لسداد دين السندات القديمة، أي أن الحكومة لا تسدد أبداً ديونها للبنك المركزي.
وهكذا تفقد الأموال قيمتها، وتصبح فعلًا قِطعًا من الورق تعترف عليها الحكومات ولا أحد يجرؤ على الاعتراض، لا أكثر ولا أقل!