في عام 1864، اكتشف ينبوع حار على عمق 450 مترا تحت سطح الأرض في منجم "ويل كليفورد" للنحاس على مشارف بلدة ريدروث بمقاطعة كورنوال في إنجلترا.
وأُرسلت قوارير زجاجية مملؤة عن آخرها بالمياه الساخنة للمختبرات. وأثبتت النتائج احتواء المياه على نسبة كبيرة من الليثيوم، كانت أعلى بثمانية أو 10 مرات لكل غالون من نسبة الليثيوم التي اكتشفت في أي من الينابيع الحارة سابقا، إلى حد أن العلماء ظنوا أنها "قد تصبح ذات قيمة تجارية هائلة".
لكن إنجلترا في القرن التاسع عشر، لم تكن في حاجة إلى هذا المعدن، وظلت المياه الغنية بالليثيوم التي تبلغ درجة حرارتها 122 درجة مئوية غير مستغلة لأكثر من 150 عاما.
ثم في عام 2020، اكتشفت في موقع بالقرب من منجم "ويل كليفورد" في كورنويل، بعض أعلى نسب الليثيوم في الينابيع الحارة في العالم.
وقد أصبحت الاستخدامات التجارية لليثيوم في القرن الحادي والعشرين أوضح من أي وقت مضى، فلا يستخدم الليثيوم في تصنيع بطاريات الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة فحسب، بل إن عملية التحول إلى الطاقة النظيفة قد تصبح مستحيلة من دون الليثيوم، الذي يستخدم في تصنيع البطاريات التي تشغل السيارات الكهربائية وتختزن الطاقة الكهربائية المتولدة من مصادر متجددة.
وارتفع الطلب على الليثيوم في السنوات الأخيرة بالتوازي مع اتجاه مصانع السيارات لتصنيع المركبات الكهربائية، بعد أن أعلنت دول عديدة، مثل المملكة المتحدة والسويد وهولندا وفرنسا والنرويج وكندا، اعتزامها منع بيع السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي. وأشار تقرير للبنك الدولي إلى ضرورة مضاعفة إنتاج الليثيوم بنحو خمس مرات لتحقيق أهداف القضاء على الانبعاثات العالمية بحلول 2050.
التهافت العالمي على الليثيوم... هل نودع هيمنة النفط؟
إذا نفذ مستهلكو الطاقة الرئيسيون مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين وكوريا الجنوبية تعهداتهم العامة والخاصة للانتقال من المركبات التي تعمل بالنفط والغاز إلى بدائل أنظف، فإن التغييرات في سلاسل التوريد ستحول عالمياً الوزن الجيوسياسي من الدول البترولية إلى الدول ذات الموارد التي يمكن أن تلبي احتياجات حيتان صناعة السيارات مثل PHEV وEV، خاصة عندما يتعلق الأمر بمصادر المكون الرئيسي لأي سيارة تعمل بالطاقة الجديدة: البطارية.
سيركز الاندفاع لتأمين الموارد بشكل أساسي على عدد قليل من المواد الخام: الليثيوم والكوبالت والنيكل. من المقرر أن يتضاعف الطلب العالمي على الليثيوم، وهو الأكثر أهمية من بين الثلاثة.
وبالمثل، فإن الطلب على الكوبالت (لاستخدامه في البطاريات تحديداً) سيكون ضعف المستوى الذي كان عليه في عام 2017 بحلول عام 2025. أخيراً، تؤكد شركة ماكينزي أن الطلب على النيكل عالي الجودة سيتضاعف تقريباً من 2.2 مليون طن إلى 4.0 مليون بحلول عام 2030.
ومثلما غذت دول الخليج وشركاؤها في تحالف النمو الاقتصادي العالمي بعد الحرب، فإن تلك الدول التي تمتلك أكبر رواسب من المعادن المذكورة أعلاه (وغيرها، مثل الجرافيت) ستستفيد أكثر من ثورة الطاقة النظيفة، لا سيما فيما يتعلق بجوانب النقل وتركيزها على تكنولوجيا البطاريات.
المكاسب ستكون ذات شقين: الأولى والأكثر وضوحاً هي الفوائد الاقتصادية التي مع نمو الطلب، ستكون غير عادية. ثانياً، ستتمكن تلك الحكومات الغنية بهذه الموارد من استخدامها كوسيلة ضغط، واستخراج الإيجارات الجيوسياسية من المستوردين اليائسين، مثل الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا.
أين يتركز الليثيوم؟
يوصف الليثيوم بأنه نفط القرن الحادي والعشرين، ويُعتقد أن الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي، المعروفة باسم دول مثلث الليثيوم "LTCs"، لديها أكبر احتياطيات من هذا المعدن بالعالم.
إن كون الدول التي تتمتع بموارد جيدة مستقرة ومتقدمة في أجزاء مسالمة نسبياً من العالم يجب أن تكون مريحة للمستهلكين، ولكن الصراع في أوجه بين المشترين في أمريكا وأوروبا واليابان، إلى جانب الطلب المتزايد من الدول النامية ذات القوى العاملة الهائلة مثل الصين، وسوف تخلق الهند اختناقات في العرض يمكن للمصدرين استغلالها بسهولة.
هذا ويعتقد محللون أن التركيز الآن سيتحول إلى أفغانستان، للاستفادة من احتياطيات البلاد الهائلة من الليثيوم، ونظراً لأن تكلفة النقل من أمريكا الجنوبية إلى البلدان الآسيوية المتعطشة للطاقة تعد غير مجدية اقتصادياً، فإنهم يعلقون آمالهم الآن على عودة النظام في أفغانستان، ليتمكنوا من الاستفادة من الليثيوم المتواجد بالبلد الآسيوي.
وقد ذكرت صحيفة "فيننشيال تايمز" البريطانية، مؤخراً، أن كميات الليثيوم في أفغانستان يمكن أن تنافس تلك الموجودة في دول مثلث الليثيوم.
البساط يُسحب من تحت أقدام الدول النفطية:
سيكون نقل النفوذ الجيوسياسي من الدول البترولية مثل المملكة العربية السعودية وروسيا إلى الليثيوم والكوبالت تدريجياً في عمليته، ولكنه سيكون دراماتيكياً في نطاقه.
وبينما تقود تكتلات القوى الكبرى في العالم التهمة ضد تغير المناخ وتعيد توجيه استراتيجياتها الصناعية والاقتصادية المحلية بشكل مناسب، فإنها أيضاً ستصلح سياساتها الخارجية واستراتيجياتها الكبرى.
أخيراً، سوف تجد الدول التي كانت على هامش المسرح العالمي نفسها في المركز، لتستفيد من ثرواتها ومواردها تمامًا كما حصل مع الدول النفطية لكسب الاحترام والقوة الجيوسياسية.
بعض أصحاب المصلحة الناشئين، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية أو إندونيسيا، معرَّضون لخطر أن يصبحوا وكلاء عن الموارد الفقيرة. آخرون، مثل تشيلي وأستراليا، سوف يستفيدون بسهولة من إيجاراتهم المكتشفة حديثاً وينطلقون في طريقهم إلى الشهرة الدولية.
وهناك آمال واعدة بأن تصبح منظومة الطاقة في القرن الواحد والعشرين أفضل من عصر النفط، أفضل لصحة الإنسان وأنفع للاستقرار السياسي والاقتصادي.
لكن التحول له مخاطر جمة. فإن تم دون تنظيم، يمكن أن يزيد من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في الدول النفطية ويركز التحكم في سلاسل التوريد الخضراء في دول مثل الصين.
السيارات الكهربائية وأسعار الليثيوم:
ارتفعت أسعار الليثيوم بشكل كبير خلال الأشهر الـ18 الماضية، ورغم أن الارتفاع فقد بعض الزخم مؤخرا، فإن هناك سببا لارتفاع هذه السلعة المعدنية المستخدمة في صناعة البطاريات.
وحسب موقع "أويل برايس" (Oil Price) الأميركي، فقد ارتفعت أسعاره بنسبة تزيد عن 500% وسط اختناقات في سلسلة التوريد والطلب القوي على السيارات الكهربائية، إلا أن هناك العديد من الأسباب القوية التي تجعله يستمر، بما في ذلك عدم وجود مناجم رئيسية من المتوقع أن تشغل على مدى السنوات القليلة المقبلة والنمو الهائل للمركبات الكهربائية.
يعد الضغط الكبير على العرض أحد أكبر الأسباب وراء ارتفاع أسعار الليثيوم خلال العام الماضي، إذ قال بنك "غولدمان ساكس" (The Goldman Sachs) إن أهم إمدادات الليثيوم الجديدة "الأكثر أهمية" ستأتي من الصين، فقد استثمرت الشركات في مشاريع الصخور الصلبة والمياه المالحة.
ويتحرك الآن مصنعو بطاريات السيارات الكهربائية وبطاريات أيونات الليثيوم لتأمين إمدادات الليثيوم في المستقبل؛ إذ وقعت شركة "إل جي" (L G) لحلول الطاقة مذكرتي تفاهم مع عمال المناجم الكنديين لتأمين إمدادات الليثيوم، في محاولة لإنشاء سلسلة توريد بطاريات في أميركا الشمالية.
وتُعد شركة "إل جي" لحلول الطاقة واحدة من أفضل الشركات المصنعة لبطاريات السيارات الكهربائية في العالم؛ إذ تزوّد شركات من مثل "تيسلا" (Tesla) و"جنرال موتورز" (General Motors).
وأصبحت ثورة السيارات الكهربائية العالمية تيارا لا يمكن وقفه، وعاملا رئيسيا يدفع الطلب القوي على الليثيوم، فقد قال المتنبئون بالطاقة النظيفة إن سلسلة إمداد البطاريات ستتطلب استثمارات كبيرة على المدى القريب لتجنب حدوث أزمة في الإمدادات.
ومن المتوقع أن تكون صعوبات العرض والتضخم العالمي التي تسببت في تراجع نزعة تكلفة البطارية مؤقتةً، في وقت تستمر فيه أسعار الغاز المرتفعة في العمل حافزا للتحول إلى الكهرباء.