سواءً الفوضى وخطر الإفلاس والانهيار الاقتصادي الذي تشهده بعض الدول مثل سريلانكا، أو جنون أسعار الطاقة والغذاء في العالم أجمع، كل تلك هي مؤشرات على ما يتخوف الخبراء أنه "انتحار اقتصادي" ترغب روسيا بأن تنفذه مع أصدقائها وأعدائها على حد سواء.
يرى الخبراء، أنه بعد فشل روسيا عسكريًا في أوكرانيا، باتت تتطلع للتغلب على الغرب في معركة أخرى، عن طريق التسبب في صدمات دولية بزيادة احتمال حدوث نقص في الطاقة خلال فصل الشتاء وإذكاء الأزمات في العالم النامي.
نناقش تفاصيل ومآلات هذا الموضوع مع تقريرٍ نشره "سيث كروبسي" في مجلة "ناشونال ريفيو" (national review) الأميركية- قال فيه إن الإستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا فشلت فشلا ذريعا؛ فلم يكن الهدف أبدا "غزو أوكرانيا بالطريقة التقليدية"، وقد أساءت المخابرات الروسية تقدير القوة القتالية للجيش الأوكراني وإرادته، إذ لم يتقهقر، وكذلك رئيس البلاد الذي لم يهرب.
ماذا كان هدف روسيا وعلى ماذا حصلت؟
يشرح الكاتب أن الهدف المفترض من الهجوم الروسي على أوكرانيا كان إظهار القوة العسكرية الساحقة لروسيا. وما قد يترتب على ذلك من صدمة للغرب بدرجة كافية لمنع وحدة حلف شمال الأطلسي (ناتو).
وسعت روسيا لرسم صورة بأن هجومها سيكون شرسا بما يكفي للتغلب على أوكرانيا في غضون ساعات، والأمر نفسه حدث فيما يخص الهجوم على إقليم دونباس. ولكن من الواضح أن الجيش الروسي لم يكن كفئا لتحقيق هذه الأهداف، إذ يستصعب حتى المهارات العملياتية الأساسية.
وهكذا فإن الخذلان العسكري الذي باءت به روسيا، أجبرها على التوجه إلى جبهة أخرى وهي جبهة الاقتصاد.
لنضع النقاط على الحروف... ما هو تأثير روسيا في معادلة الاقتصاد؟
لكي نجيب على هذا السؤال لا بد من التطرق إلى 3 نقاط أشار إليها الكاتب:
بدايةً، من المرجح أن "الضغط التضخمي في العالم لا علاقة له بالغزو الروسي لأوكرانيا"؛ فهو نتيجة طبيعية بعد عامين من الإغلاق المتقطع في الغرب والاضطرابات العالمية في سلسلة التوريد. كما أن سياسة "صفر كوفيد-19" التي تتبعها الصين تزيد من حدة مشكلات الإمداد.
ثم إن روسيا منتج رائد للبتروكيميائيات، ومن خلال مشاركتها الدبلوماسية والعسكرية في الشرق الأوسط اكتسبت بعض السيطرة على إمدادات النفط الإضافية. ويمكن لروسيا تكثيف الضغوط التضخمية عن طريق قطع صادرات الغاز الأوروبية. ويعد التضخم والبطالة معا من العوامل السامة اقتصاديا.
وأخيرًا، تُعد كل من روسيا وأوكرانيا طرفا حاسما في توفير إمدادات الغذاء العالمية. ويمكن لروسيا بقطع صادراتها الغذائية والحصار الذي تفرضه على أوكرانيا خفض الإمدادات الغذائية العالمية بشكل كبير. وفي الغرب، يؤدي هذا الأمر إلى تكثيف الضغوط التضخمية فحسب. أما في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا فلن يكون الوضع بهذه البساطة بل سنكون أمام سيناريوهات دراماتيكية.
خطة روسيا الانتقامية تعمل بالفعل... وأوروبا تتخوف من أفواج المهاجرين:
اعترف الكاتب أن إستراتيجية روسيا تعمل بالفعل. وأحدث تداعياتها الإطاحة بالرئيس السريلانكي، إلى جانب تأثير ارتفاع أسعار الأسمدة على تايلند والدول الأخرى التي تعتمد على الزراعة.
وعلى الرغم من أن نقص الأسمدة قد يكون مؤقتًا، سيستمر النقص العالمي في الغذاء والوقود. وسوف يتّحد ارتفاع درجات الحرارة في الشرق الأوسط وأزمة الغذاء والطاقة في أفريقيا مع نقص الغذاء لخلق عاصفة اقتصادية عالمية لا يمكن توقع نتائجها.
كل تلك العوامل والظروف الصعبة في الدول النامية والفقيرة يمكن أن يتمخض عنها موجة مهاجرين ترهق الأنظمة السياسية الأوروبية، وسلسلة من حالات الطوارئ غير المتوقعة في العالم النامي التي لا يمكن للغرب تجاهلها.
هل تمتلك روسيا الوقت الكافي للحصول على انتقامها؟
من المؤكد أن الغرب سيشعر بضغوط الطاقة هذا الشتاء فقط، وإذا صادف وكان شتاء معتدلا فحتما سيؤدي إلى إضعاف سلاح الغاز الروسي.
كما أن شن أوكرانيا هجوما مضادا ناجحا في الجنوب سيهدد بزعزعة موقف روسيا بالكامل وتقليص نفوذها على أوكرانيا، وتبديد أهدافها الحربية.
ثم لدينا نقطة أخرى هامة أن البنك المركزي الروسي قال صراحة إن " التأثير الكامل للعقوبات الغربية على روسيا لن يكون محسوسا حتى الخريف والشتاء". وبمجرد أن يبدأ نفاد احتياطات روسيا من النقد الأجنبي، ستكون في موقف ضعيف بشكل متزايد.
ورقة الروس المتبقية في هذه اللعبة:
قد يكون مصدر القوة المتبقي لروسيا هو تعطيل ما تبقى من سلسلة الشحن العالمي. فلدى أسطولها في البحر الأسود ما يكفي من السفن لمنع حركة الملاحة من الموانئ الرومانية والبلغارية، مما يعني ارتفاع تكاليف التأمين على الشحن التي تتسم بالغلاء مسبقًا.
وقد يحالف روسيا الحظ وتتمكن من تأجيج صراع كبير خارج أوروبا بحلول نوفمبر/تشرين الثاني أو ديسمبر/كانون الأول من هذا العام.
وأكد الكاتب أنه يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على تفادي هذا الاحتمال. وستكون أكثر خطواتها منطقية إزالة أداة الضغط الروسية الأخيرة، أي سيطرتها على البحر الأسود. وهناك خطوتان ضروريتان لتحقيق ذلك:
أولاهما تغيير أعلام سفن شحن الحبوب الأوكرانية واستبدالها بعلم الولايات المتحدة أو الحلفاء، ومرافقتها عبر شرق البحر الأبيض المتوسط. ومن شأن ذلك التخفيف من الضغط على إمدادات الغذاء العالمية.
أما الخطوة الثانية، فهي أنه من شأن الانتشار البحري القوي في البحر الأسود وبحر الشام أن يمثل تحديا مباشرا لروسيا مما سيوفر للولايات المتحدة القوة القتالية لمواجهة الأسطول الروسي في البحر الأسود.
وفي الختام، تحدث الكاتب عن سعي روسيا، التي تعثرت في ساحة المعركة، إلى تحويل الصراع على الأرض إلى منافسة على السلع الأساسية. وبالطبع لا يجب الاستهانة بكلا الطرفين في هذه المعركة، لكن يجب على الدول فهم مجريات الأمور جيدًا للخروج من هذه الحرب الاقتصادية بين الكبار بأقل الخسائر.
اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرج أمة محمد صل الله عليه وسلم المسلمين السنة من طغيانهم وفجورهم سالمين.