إذا كنتم تعتقدون أن أزمة الطاقة والغاز قد بلغت ذروتها في الشتاء وخمدت قليلًا بعدما انتهت مواسم البرد والصقيع، فلا بد أنكم على خطأ. فما ينتظر العديد من الدول المتقدمة هذا الصيف بخصوص أزمة الطاقة قد يكون أكبر بكثير من مسائل غاز الطهي والتدفئة... ببساطة إنها الكهرباء.
فقد تصاعدت المخاوف في كثير من دول العالم من أزمة كهرباء قادمة في الصيف، حتى وصل الأمر بدول كبرى مثل أستراليا إلى أن تطلب من السكان خفض استهلاك الكهرباء تجنبا لانقطاع التيار!
يأتي ذلك في حين عادت دول كبرى أخرى مثل ألمانيا إلى استخدام محطات التوليد التي تعمل بالفحم الحجري وتراجعت عن سياسات الطاقة النظيفة، ضاربة بذلك مبادئها وجهودها المضنية بهذا الخصوص عرض الحائط.
أما على صعيد الدول العربية، فقد بدأت دول مثل العراق الاستعداد مبكرا لمواجهة أزمة انقطاع التيار. ثم بالنسبة للدول المتدهورة اقتصاديًا مثل لبنان وسوريا فلا حاجة للتنويه إلى ما قد ينتظرها في هذا الصدد.
لماذا قد تخاف أوروبا بكل حجمها من أزمة كهرباء؟
في الواقع، لا يتوقف أمر أزمة الكهرباء حول العالم، خاصة في أوروبا، على تراجع إمدادات الطاقة والغاز، بل ظهرت مشكلة أخرى، حيث تتخوف دول العالم من مواجهة مشكلة جديدة في توليد الكهرباء خلال الشتاء المقبل، بسبب احتمال عرقلة روسيا إمدادات الوقود النووي للمحطات الكهربائية في أميركا وأوروبا. وفي حال حدوث سيناريو كهذا، فإن سعر رطل اليورانيوم ربما يقفز من 60 إلى 200 دولار.
وحتى هذه اللحظة، كان يجرى التركيز على المخاطر التي تواجه القوى الغربية من الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعيات العقوبات المالية، من زوايا الأزمات التي نشأت بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي والغذاء.
لكن قلقاً آخر ظهر لدى واشنطن وحلفائها من احتمال أن تشهر روسيا سلاح "الوقود النووي"، المشغل الرئيسي لمولدات الطاقة النووية والمستخدم بكثافة في توليد الكهرباء في كل من أوروبا وأميركا والعديد من دول المنطقة العربية، خاصة مصر وتركيا.
وحسب تقرير لمركز "سياسات الطاقة العالمية “بجامعة كولومبيا الأميركية، فإن الكونغرس الأميركي يناقش حالياً آلية التعامل مع احتمال عرقلة إمدادات الوقود النووي الروسي لمحطات توليد الكهرباء النووية، خاصة إذا قررت موسكو استخدام الوقود النووي سلاحا جديدا إلى جانب الغاز والنفط في الحرب الروسية على أوكرانيا.
ويرى التقرير أنه يمكن أن تشعل روسيا أزمة جديدة في توليد الكهرباء بالدول الغربية، وهنالك مخاوف من أن تستخدم هذا السلاح في الشتاء المقبل، خاصة أن هنالك قلقا من استمرار الحرب مدة أطول من العام الجاري.
وهنا يجدر التذكير أن 32 دولة في العالم تعتمد على روسيا في إمدادات الوقود النووي وبنسب متفاوتة. خاصة بعض الدول الأوروبية التي تخوض مواجهة رئيسية مع روسيا، حيث تعتمد فرنسا بنسبة 69% على الطاقة النووية الروسية، وهنغاريا بنسبة 46%، وفنلندا بنسبة 34%، والسويد بنسبة 31%.
وعلى الجانب الآخر، تعتمد أميركا بنسبة 20% من الكهرباء على التوليد النووي، ولا يستبعد خبراء أن تؤدي أي عرقلة في إمدادات الوقود النووي الروسي إلى ارتفاع جنوني في أسعار الغاز الطبيعي، البديل المثالي في توليد الكهرباء.
وحسب نشرة "كونفرسيشن" الأسترالية التي تعنى بالأبحاث الأكاديمية، فإن هنالك نحو 440 مفاعلا لتوليد الكهرباء تعمل بالطاقة النووية، وتنتج نحو 10% من إمدادات الكهرباء في العالم.
ولدى الولايات المتحدة أكبر عدد من المولدات النووية في العالم، حيث يوجد فيها نحو 93 مفاعلاً لتوليد الكهرباء نووياً، تليها فرنسا بنحو 56 مفاعلاً نووياً، والصين نحو 53 مفاعلاً نووياً.
منتجو اليورانيوم بالعالم... روسيا ليست من أكبرهم فلماذا الخوف؟
رغم أن روسيا ليست من المنتجين الكبار لليورانيوم، حيث تنتج نحو 5% فقط من إجمالي الإنتاج العالمي، فإنها تسيطر على موارد اليورانيوم في منطقة آسيا الوسطى. حيث تأتي إمدادات العالم من اليورانيوم بمعظمها من كازاخستان التي تقع مباشرة تحت النفوذ الجيوسياسي والأمني والعسكري الروسي.
بينما تنتج كازاخستان نحو 40% من إجمالي الإنتاج العالمي من اليورانيوم، كما تنتج أوزبكستان وباقي دول آسيا الوسطى كميات كبيرة من اليورانيوم، حيث تقدر نشرة "كونفرسيشن" أن روسيا تهيمن على نحو 50% من الإنتاج العالمي من اليورانيوم عبر هيمنتها على آسيا الوسطى.
في مقابل ذلك، فإن إنتاج أوروبا وأميركا من اليورانيوم لا يتجاوز نسبة 1% من إجمالي الإنتاج العالمي. وتمر إمدادات اليورانيوم من كازاخستان إلى روسيا، التي تقوم بمعالجته وبيعه في الأسواق العالمية.
وحسب بيانات رسمية، تحوز روسيا على نسبة 43% من إجمالي إنتاج اليورانيوم المخصب في العالم، أي اليورانيوم الذي يستخدم في الوقود النووي، مقارنة بالولايات المتحدة التي تحوز على نسبة 7% فقط.
ووفق بيانات مركز سياسات الطاقة العالمية، فإن الولايات المتحدة تعتمد بنسبة تراوح بين 16 إلى 20% على استيراد إمدادات اليورانيوم الخام من روسيا. وتقوم الشركات الأميركية بمعالجته محلياً لاستخدامه في توليد الكهرباء.
ويرى خبراء أنه في حال عرقلت روسيا إمدادات اليورانيوم للدول الغربية كما تفعل حالياً مع القمح والغاز الطبيعي، فإن ذلك سيعني عملياً مواجهة الدول الغربية أزمات حقيقية في توليد الكهرباء، خاصة فرنسا، التي تعتمد بنسبة 60% في مفاعلات توليد الطاقة النووية على استيراد الوقود الروسي.
وربما يفسر هذا سر تردد الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" في إغلاق باب المفاوضات مع روسيا، وحرصه على ترك الباب مفتوحاً أمام تسوية للأزمة مع أوكرانيا. إذ أن أي أزمة تنشأ من عرقلة واردات الوقود النووي الروسي، لن تُحلّ في وقت قصير، وربما تستمر نحو عامين على الأقل.