تحيط بالعالم مشاكل اقتصادية مستعصية ينتج عنها تعقيدات عديدة وأزمات في مختلف القطاعات من غذاء وطاقة وسلاسل إمداد، لكن هذه المشاكل المتراكمة ناتجة في الأساس عن 3 أزمات رئيسية سيعني انفراجها عودة تدريجية إلى أيام الوفرة والاستقرار، أي أيام ما قبل عام 2020.
أولًا: أزمة ارتفاع سعر الدولار
حتى الآن ارتفع سعر صرف الدولار إلى أعلى مستوياته وبات يشكل تهديدا للأسواق الناشئة وعملاتها وانكماش النمو الاقتصادي في الصين.
ومنذ بداية العام ارتفعت العملة الاميركية بنسبة 10% حسب مؤشر "دي أكس واي" العالمي لقياس قيمة العملات الرئيسية، كما ارتفع بنسبة 16% خلال الـ 12 شهراً المنصرمة، وهو ما يعني أعلى معدل ارتفاع منذ 20 عاماً.
في الواقع، يجب أن يساعد الدولار القوي بنك الاحتياطي الفيدرالي على خفض الأسعار، ودعم الطلب الأمريكي على السلع من الخارج، لكنه تهدد أيضاً برفع أسعار الواردات إلى الاقتصادات الأجنبية، ما يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم فيها، واستنزاف رأس المال.
يُعَدّ ذلك الأمر مثيراً للقلق بشكل خاص بالنسبة إلى الاقتصادات الناشئة، التي تضطر إما إلى السماح لعملاتها بالضعف، وإما إلى التدخل لتهدئة انحدارها، وإما إلى رفع أسعار الفائدة الخاصة بها في محاولة لدعم مستويات صرف العملات الأجنبية لديها.
بالإضافة إلى كل ذلك، تتعرض الاقتصادات النامية لخطر "عدم تطابق العملة"، الذي يحدث عندما تقترض الحكومات أو الشركات أو المؤسسات المالية السيولة بالدولار الأمريكي وتعيد إقراض سيولتها للجهات الأدنى في التسلسل الهرمي بعملتها المحلية.
ولم تنجُ الاقتصادات المتقدمة أيضاً من هذا، ففي الشهر الماضي سجّل اليورو أدنى مستوى جديد له في خمس سنوات، وضعف الفرنك السويسري ليتساوى مع الدولار لأول مرة منذ عام 2019، واضطرت سلطة النقد في هونغ كونغ إلى التدخل للدفاع عن ربط العملة. كما وصل الين مؤخراً إلى أدنى مستوى له في عقدين من الزمن.
ثانيًا: حرب أوكرانيا وهروب السيولة من الأسواق الناشئة
لاحظ اقتصاديون أن الحرب الأوكرانية جعلت من القارة العجوز منطقة خطرة للمستثمرين، حيث تسيطر حالة من عدم اليقين بين المستثمرين حول المدة التي ستأخذها الحرب، وكيف يمكن لساسة القارة معالجة آثارها المدمرة بعد توقفها.
كما أنه من غير المعروف حتى إذا توقفت الحرب، إذا كان ذلك سيعني نهاية أطماع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في السيطرة على شرقي أوروبا. وبالتالي فإن دول شرق أوروبا، وهي دول تابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً وتتبع حالياً الاتحاد الأوروبي، باتت منطقة عالية المخاطر وطاردة للمستثمرين.
ومع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، ربما سيرتفع حجم الاستثمارات الهاربة من شرقي أوروبا. ولا يستبعد محللون أن ينتج عن هذا الهروب الاستثماري مجموعة من التحديات في أوروبا تمتد من نقص التمويل الإنفاقي وتصل إلى البطالة وارتفاع التيارات اليمنية المتطرفة.
أما على صعيد أخطار الأسواق الناشئة، فقد لاحظ مراقبون ارتفاع حجم الاستثمارات الهاربة منها بشكل خطير خلال العام الجاري، حيث هربت نحو 26 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية من السوق الهندية منذ أكتوبر/ تشرين الثاني، حسب تغريدة للدكتورة "شاما محمد" على حسابها على تويتر يوم الأحد.
وقالت "شاما" إن هذا المعدل من الهروب الاستثماري لم تشهده الهند منذ أزمة المال العالمية في العام 2008، التي بلغت كمية الأموال الأجنبية التي هربت منها 15 مليار دولار.
ويبدو أن الهند أحسن حالاً مقارنة بأسواق ناشئة أخرى، حيث إنها تستفيد من المشتقات النفطية الرخيصة التي تحصل عليها من الشركات الروسية، مقارنة بأسواق ناشئة مثل تركيا التي تعتمد على الطاقة الروسية وتواجه ضغوطاً مصرفية غربية لتسديد ديونها الخارجية قصيرة الأجل.
وشهدت السوق المصرية أيضًا هروبا للاستثمارات الساخنة بلغت قيمتها 20 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري وفق تصريحات سابقة لرئيس الحكومة المصرية "مصطفى مدبولي".
وحتى الآن رفعت الحرب الروسية على أوكرانيا أسعار الغذاء والمشتقات البترولية من أزمات المال والاقتصاد في عدة دول يصنفها صندوق النقد الدولي بأنها ضعيفة اقتصادياً وتقع في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
ويجري صندوق النقد منذ شهور محادثات لمساعدة اقتصادات كل من مصر وتونس وباكستان وغانا ودول في أميركا اللاتينية على أمل مساعدتها على تخطي أخطار تفاعلات غلاء أسعار الطاقة التي باتت تهدد مستقبل الاستقرار السياسي. وتعاني باكستان مثلاُ من انقطاع متكرر في التيار الكهربائي وغلاء في أسعار السلع الغذائية. كما تعاني غانا من انهيار العملة الوطنية.
ثالثًا: الركود التضخمي
بدأت علامات الركود التضخمي بالظهور في أسواق المال العالمية، حيث تراجعت المؤشرات الرئيسية بقوة وإلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود، بينما يستمر التضخم ضمن مستويات تاريخية.
وفي خضم ذلك، باتت تصريحات كبار خبراء المال والاقتصاد متركزةً حول احتمال دخول العالم لدورة اقتصادية تقترب من الكساد.
في لقاء مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، توقع "بن شالوم بيرنانكي"، رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي، "البنك المركزي الأميركي" الأسبق، دخول الاقتصاد الأميركي مرحلة الركود التضخمي. واعتبر أنه "في أفضل السيناريوهات فإن النمو الاقتصادي في أميركا سيتباطأ وسيظل التضخم مرتفعاً".
وعلى الرغم من التطمينات الرسمية في أمريكا، إلا أن العديد من خبراء المال يرون أن هنالك استحالة في تحقيق هدف القضاء على التضخم بدون كلفة عالية على النمو الاقتصادي بالولايات المتحدة.
في هذا الشأن، يقول "لاري سمرز" وزير الخزانة الأميركي الأسبق والمحاضر حالياً بجامعة هارفارد: "إن هنالك فرصاً ضئيلة أن يتمكن مجلس الاحتياط الفيدرالي من خفض معدل التضخم دون أن يؤدي ذلك إلى تراجع كبير في الأنشطة الاقتصادية".
و"الركود التضخمي" مصطلح اقتصادي، يعني أن ارتفاع معدل التضخم أو غلاء السلع يكون مصحوبا في ذات الوقت بالكساد وقلة المبيعات ووفرة العرض. وهذا معاكس لمبدأ العرض والطلب، فالمنطق أن الأسعار المرتفعة تترافق مع الطلب المرتفع، والكساد أو الركود يحدث بسبب كثرة العرض وقلة الطلب.
لهذا السبب فإن الاعتقاد السائد والعام أن العلاقة بين التضخم والركود علاقة عكسية، ولا يصح اجتماعهما في آنٍ معًا، لكن حالة الركود التضخمي استثناء خطير عن هذه القاعدة.
وعلى الصعيد الأوروبي يرى اقتصاديون، أن آثار الحرب السلبية على الاقتصادات الأوروبية لا تقل عن الآثار المدمرة التي تركتها أزمة ديون اليورو في بداية العقد الماضي وكادت أن تفلس بالعديد من دول منطقة اليورو.