تجد ألمانيا نفسها، وهي صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، أمام مأزق كبير ومشكلة مستعصية في توفير بدائل لإمدادات الطاقة الروسية؛ فرغم التوجه نحو حظر نفط روسيا وتقليص الاعتماد على غازها، لكن البدائل المتاحة قليلة وغير مجدية بشكل مخيف، إذ لا يزال مردود مشروعات الطاقة المتجددة متواضعاً ولا يكفي اقتصادًا بحجم ألمانيا للوقوف.
بعد سنوات من الترويج للطاقة المتجددة... أين هي الآن عند الحاجة؟
يقول رئيس قسم الاستدامة في شركة يونيون انفستمنت للاستثمار "هنريك بونتزن"، في تصريحات لشبكة إخبارية ألمانية قبل يومين، إن العقود القديمة التي أبرمتها الشركات لإنتاج الطاقة من مصادر متجددة وبيعها للمستهلكين باتت مشكلة كبيرة، لأن كل ما تحتاجه من توربينات الرياح من الصلب والألومنيوم والمضخات والأنظمة الكهرضوئية أضحت أكثر تكلفة، والزيادات في الأسعار باتت تلتهم هامش الربح.
ومع ازدياد الطلب على الطاقة المتجددة في السنوات الأخيرة، قررت العديد من الشركات وحتى الأفراد التحول للاعتماد على الطاقة المتجددة للحد من المصاريف الثابتة المرتفعة على مشتقات الطاقة النفطية، وذلك عبر تجهيز أسقف المنازل بخلايا شمسية، وكذلك أسقف مباني البلديات والشركات أو مواقف السيارات الخارجية، واستغلال المساحات المفتوحة والمدارس وحمامات السباحة وغيرها، إلا أن هذا الإنتاج لا يزال محدوداً مقارنة بالاحتياجات.
ونقل موقع ولاية بادن فورتمبيرغ، جنوبي ألمانيا، نهاية الأسبوع الماضي، عن وزير شؤون الطاقة في الولاية، قوله إن توسع الطاقات المتجددة يتقدم ببطء شديد، والأرقام التي يتم جمعها من مركز أبحاث الطاقة الشمسية والهيدروجين في الولاية غير مرضية.
وأضاف الوزير: "علينا أن نوسع العمل في الطاقة الشمسية والرياح بقوة وبشكل أسرع، للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الضارة لنتمكن من تحقيق أهدافنا المتعلقة بحماية المناخ، والتحرر كذلك من الاعتماد على الطاقة الروسية، ومن أجل تحقيق ذلك علينا تقصير مدة الموافقات والتراخيص على جميع المستويات بشكل كبير، والنتائج يمكن أن تظهر بعد سنوات قليلة".
في السياق ذاته، يشير خبراء اقتصاد إلى ضرورة رفع العوائق التي تواجه استخدام الطاقة المتجددة وخلق حوافز للإنتاج، بينها تخفيض رسوم التراخيص والرسوم السنوية أو إلغاؤها عن المصانع التي تعتمد في عملها على إنتاج الطاقة المتجددة.
وأبرز موقع البوندستاغ الألماني (البرلمان) أنّ هناك نقاشات تتعلق بثلاثة مشاريع قوانين قدمتها الحكومة الاتحادية من أجل تسريع التوسع في إنتاج الطاقات المتجددة. لكن حتى مع إزالة المعوقات المتعلقة بتراخيص الإنتاج والاستهلاك، يبدو أنّ ارتفاع كلف المواد الأساسية الداخلة في تكوين محطات الطاقة المتجددة ستكون من أبرز المشكلات التي سيواجهها المستثمرون في هذا المجال.
ووفق الخبير الاقتصادي يواخيم بيرلنباخ فإن قطاعات إنتاج الطاقة المتجددة تتطلب بشكل عاجل كمية غير مسبوقة من المواد الخام المهمة، والتي لم يتضح بعد كيف سيتم تأمينها في ظل نقص المعروض من النحاس والنيكل والكوبالت والليثيوم والصلب وما إلى ذلك، وسيكون مصنعو توربينات الرياح معرضين وبشكل خاص لاختناقات سلسلة التوريد وارتفاع التضخم إلى ارتفاع الأسعار التقليدية.
التشاؤم آخذ بالازدياد والسؤال أصبح: هل يمكن استبدال الطاقة الروسية حقًا؟
في خضم البحث عن بدائل للطاقة الروسية، يشعر العديد من مديري الشركات بالقلق إزاء ذلك. وتبرز التقارير الاقتصادية أن تشاؤم الشركات آخذ في الازدياد، بينما انهار التفاؤل الذي ساد الأسواق قبل اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ طمح الصناعيون والتجار إلى ازدهار أعمالهم بعد التراجع التدريجي لتداعيات جائحة فيروس كورونا.
وأظهر مسح أجراه اتحاد غرف التجارة والصناعة أخيراً أن ثلث الشركات التي شملها الاستطلاع والبالغ عددها 25 ألف شركة تتوقع تراجع نشاطها خلال الـ 12 شهراً المقبلة، فيما تأمل 19% منها في حدوث تحسن في أدائها.
ونقلت صحيفة هاندلسبلات عن المدير التنفيذي للاتحاد، "مارتن فانسليبن"، قوله: "لم نشهد مثل هذا الركود في الصناعة سوى خلال الأزمة المالية العالمية (2008)، والإغلاق الأول بسبب كورونا عام 2020".
ووفق المسح، ذكرت 78% من الشركات في مختلف القطاعات أن قفزات أسعار النفط تعد أحد أكبر المخاطر على الأعمال، بينما وصلت النسبة وسط القطاعات الصناعية إلى 93%، محذرة من حدوث انهيارات في بعض الأنشطة.
وفي دراسة أجرتها أخيراً شركة ديلواتيه للاستشارات الاقتصادية، وفق شبكة ايه آر دي الإخبارية، فإنّ الاقتصاد الألماني يقف على مفترق طرق، وبات من الضروري القيام بإجراءات سياسية واقتصادية واضحة للحفاظ على ازدهاره.
وفي إبريل/ نيسان الماضي، حذرت خمسة معاهد اقتصادية تقدم المشورة للحكومة الألمانية، في تقرير مشترك، من تكبّد ألمانيا خسائر تقدر بنحو 220 مليار يورو (240 مليار دولار) على مدى العامين المقبلين في حالة الوقف الفوري لإمدادات الطاقة الروسية.
ومن بين هذه المعاهد معهد البحوث الاقتصادية إيفو في ميونخ، ومعهد الاقتصاد العالمي إي أف دبليو في جامعة كيل، والمعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية دي آي دبليو، في برلين.
وبحسب التقرير، فإنّ توقف الإمدادات الروسية سيؤدي إلى انكماش في بلد يعتبر قاطرة الاقتصاد الأوروبي، وعندها من المرجح أن يدخل الاقتصاد الألماني في ركود حاد العام المقبل 2023.