
شكلت 9 سنوات من الحرب في سوريا تحدٍ صعب للاقتصاد السوري، واستدرجته إلى معركةٍ لم يكن مستعداً لخوضها بعد، تتعلق بقدرته على إيجاد مصادر جديدة للإيرادات تساعده على سدّ عجز الموازنة السنوي، لكن أصحاب القرار في الجهاز الاقتصادي السوري فضلوا أن يواجهوا هذا التحدي سالكين الطريق الأسهل والأكثر خطورةً وضرراً، والذي يعد السبب الرئيسي في موجات التضخم والغلاء المتتابعة، ما نتحدث عنه هنا هو "التمويل بالعجز"...
كشف الصحفي "زياد غصن"، توضيحات لافتة عن ماهية هذا الفخ الذي وقعت فيه الحكومة السورية، أو بالأحرى – كما قد يفسر البعض الأمر – الذي أوقعت الاقتصاد السوري به حتى تحافظ على قوتها وزخمها الاقتصادي بشكل كافي لخوض الحرب على حساب التضخم والغلاء الفاحش الذي أرهق كاهل البلاد والعباد.
بعد الاتفاق السوري – الروسي الشهير قبل ما يقارب خمسة عشر عاماً، المتعلق بتسوية كتلة الديون المترتبة على الحكومة السورية لصالح الاتحاد السوفياتي السابق، استطاعت سوريا الدخول في قائمة الدول الأقل مديونية خارجية.
لكن الحرب السورية الأخيرة استطاعت قلب هذه المعادلة ليغرق البلد بالديون الداخلية والخارجية أيضاً، وبحسب أحدث إحصاءات "المركز السوري لبحوث السياسات"، فقد ارتفع إجمالي الدين العام من حوالى 30% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، إلى حوالى 208% في عام 2019.
كان واضحاً جلياً للحكومة السورية، منذ بداية اشتعال الحرب، أن بعض أطراف الصراع في الساحة السورية تسعى لتجفيف مصادر إيرادات الخزينة الحكومية، عن طريق فرض السيطرة على العديد من إيرادات الاقتصاد السوري أهمها صادرات النفط والفوسفات وباقي الثروات التي كانت مصدر مهم للقطع الأجنبي.
وكان واضحاً أيضاً أن اتباع هذه السياسة من قبل بعض أطراف الصراع سيكون بهدف إجبار الحكومة على إحدى الأمرين: إما فقدان السيطرة الاقتصادية على البلد وخروج ذمام الأمور من أيدي المسؤولين وبالتالي انهيار اقتصادي عسكري سياسي سيحسم الحرب، أو دفعها إلى الاقتراض الداخلي والخارجي وإغراقها في مستنقع التضخّم والغلاء.
أما الحكومة السورية قامت بدورها بشكل يصفه مراقبون "بالساذج" باختيار الوقوع في الفخ الثاني، ليس بسبب أنه لم يكن أمامها سوى هذين الخيارين، بل لأنه كان ببساطة الطريق الأسهل ومن سيكابد العناء ويتحمل الأمرين بسبب التضخم والغلاء الفاحش الذي سيقود هذا الطريق بشكل بديهي إليه هو الفئة البسيطة من الشعب السوري. ووفقاً لدراسة صادرة عن «مركز دمشق للدراسات والأبحاث»، فإن قيمة الدين الداخلي وحده وصلت مع نهاية عام 2015 إلى حوالي 3400 مليار ليرة، فيما تشير بعض التقديرات إلى ارتفاع الرقم إلى حوالي 7 آلاف مليار ليرة بنهاية عام 2019، وذلك بدون الحديث عن أزمة 2020 الأخيرة التي أتى بها قانون قيصر.
تراجع الإيرادات وازدياد العجز:
أدت عوامل كثيرة إلى تراجع إيرادات الخزينة السورية، أغلبها من تداعيات الحرب والعقوبات الغربية المطبقة التي ضربت مصادر الإيرادات في قطاع النفط خصوصاً، عموماً فكل تلك العوامل كانت نسبياً خارج نطاق سيطرة المسؤولين والاقتصاديين، لكن عامل آخر مهم تغافل عنه الإعلام السوري وتناساه المسؤولون في سورية هو فساد النظام الضريبي، الذي يلعب دور لا يستهان فيه في إيصال الاقتصاد السوري إلى ما وصل إليه.
اعتمدت الحكومات المتعاقبة على سورية سياسة مالية غريبة، تعتمد على تحصيل أكبر قدر ممكن من الرسوم والضرائب "غير المباشرة" وإهمال الضرائب المباشرة، التي يفترض تطبيقها على الأغنياء ورجال الأعمال وحيتان التجارة ومافيات الأزمة، الذين زاد عددهم بشكل كبير خلال سنوات الأزمة وعكفوا دائماً على تهريب أرباحهم واستثمارها في الخارج، ضمن منظومة فساد نخرت في جسد مؤسسات الدولة حتى النخاع.
الحل الأسهل بالنسبة للحكومة، هو الأصعب بالنسبة للشعب:
هرعت الحكومة في كل مرة لمعالجة التراجع الحاد في الإيرادات المتزامن مع ارتفاع حجم الإنفاق الحكومي بسبب الحرب إلى الخيار الأسهل والأسرع المتمثل فيما يسمى "التمويل بالعجز" وذلك عبر الاستدانة من المصرف المركزي. وبحسب ما يذكر الباحث "ربيع نصر" فإن الحكومة "لجأت منذ عام 2012 إلى الاقتراض من المركزي لتغطية إنفاقها، ومن ضمنه تمويل بند الرواتب، من دون أن تدرك عواقب ذلك". ويضيف نصر، في حديثه إلى موقع «الأخبار»، إن "هناك إشكاليتين في هذا الملف، الأولى تتعلق بواقع سعر صرف الليرة عند عملية الاقتراض وعند عملية السداد، وهذا ما يجعل المبلغ المسدّد ليس حقيقياً، والثانية تتصل بعملية الإقراض نفسها التي تتمّ من دون أيّ مسؤولية في السداد أو إمكانية التغطية".
سيؤدي ذلك إلى ازدياد نسبة الدين مقابل الناتج الإجمالي المحلي، حيث أدت هذه السياسة إلى تسجيل نسبة دين قدرها 107% من إجمالي الناتج المحلي في 2013 و2014، ونسبة دين تقدر ب 92% من الناتج المحلي في 2019.
سيؤدي هذا الحل السريع الذي اتبعته الحكومة إلى إغراق السوق بتدفقات نقدية لا يقابلها عرض مواز من السلع والخدمات لامتصاصها، وبالتالي ترتفع نسب تضخم بشكل متسارع بدون أي رادع أو حل لإيقافها، ومن ثم فالاستمرار باتباع هذه السياسة سيجعل الاقتصاد السوري يأكل من نفسه كل مرة حتى لا يموت من الجوع، فالدين الداخلي لا يزيد الإنتاج ولا ينعش الاقتصاد وهو حل مؤقت سريع لا يصلح لأن يعامل كسياسة نقدية يتم تطبيقها طوال سنوات كما يحدث في سوريا.