يتحدث الإعلام يوميًا عن أزمة النفط والتضخم وآثار حرب أوكرانيا على إنتاج وتوريد القمح، وهي بالفعل مشاكل جادة تواجه الاقتصاد العالمي حاليًا، لكن أزمة الأسمدة التي ترسخت أكثر وباتت أكثر خطورةً من أي وقت مضى، قد تكون مشكلة أكثر تهديدًا وجدية مع استمرار إهمالها وعدم وجود بوادر قريبة للحل.
ولا تخفى عليكم أهمية الأسمدة في الإنتاج الزراعي العالمي، فغذاء المليارات من البشر في الوقت الحالي لم تعد تكفيه إطلاقًا الزراعة العضوية التقليدية، وباتت الأسمدة رافد وداعم رئيسي للأراضي الزراعية الضخمة التي لا يتصور أحد أنها ستكون قابلة للزراعة مرارًا وتكرارًا بدون الأسمدة.
صورة أوضح للأزمة وخطورتها:
يعتمد المزارعون التجاريون على مزيج من ثلاث مغذيات رئيسية - النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم - لتغذية محاصيلهم، ولطالما كانت هذه المدخلات أساسية، ولكن لم تتعلم البشرية سوى قبل قرن من الزمان كيفية تصنيع المغذيات القائمة على الأمونيا بأحجام ضخمة.
وسمح اكتشاف طريقة "هابر بوش" في أوائل القرن العشرين، والتي لا تزال تُستخدم في صناعة الأسمدة حتى يومنا هذا، للمزارعين بزيادة محاصيلهم بشكل كبير، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الصناعة الزراعية تعتمد على - بل تتوقف على - الأسمدة من صنع الإنسان، ورغم اختلاف احتياجات التربة من منطقة إلى أخرى، إلا أن الاتجاه العام لا جدال فيه: زيادة استخدام الأسمدة يؤدي إلى زيادة إنتاج الغذاء.
ما يحدث حاليًا، أنه لأول مرة على الإطلاق، يختبر المزارعون في جميع أنحاء العالم، وفي نفس الوقت، مدى قلة الأسمدة الكيماوية التي يمكنهم استخدامها دون تدمير محاصيلهم في وقت الحصاد.
على سبيل المثال، في البرازيل، أكبر منتج لفول الصويا في العالم، قد يؤدي خفض استخدام البوتاس بنسبة 20% إلى انخفاض بنسبة 14% في المحصول، وفقاً لشركة الاستشارات الزراعية "إم بي أرغو".
وفي كوستاريكا، من أشهر منتجي البن في العالم، تترقب جمعيات ومصادر مطلعة انخفاضاً في الإنتاج بنسبة تصل إلى 15% العام المقبل إذا فقد المزارعون ثلث الاستخدام العادي.
أما في غرب أفريقيا، فسيؤدي انخفاض استخدام الأسمدة إلى تقليص محصول الأرز والذرة العام الجاري بمقدار الثلث، وفقاً للمركز الدولي لتطوير الأسمدة، وهو مجموعة غير ربحية للأمن الغذائي.
في هذا الصدد، قال "باتريس أنيكوين"، الخبير في سوق الأسمدة في المركز الدولي لتطوير الأسمدة، إن المزارعين قد يزرعون ما يكفي لإطعام أنفسهم، لكن السؤال هو ما الذي سيكون لديهم لإطعام المدن، وعندما تضيف الجوع المتزايد عبر غرب أفريقيا إلى المخاطر الحالية مثل انعدام الأمن، "فهذا أمر خطير للغاية بالنسبة للعديد من الحكومات في منطقتنا".
أما بالنسبة لمليارات الأشخاص حول العالم الذين لا يعملون في الزراعة، فإن النقص العالمي في الأسمدة ذات الأسعار المعقولة يبدو وكأنه مشكلة على المدى البعيد، لكنها في الحقيقة مشكلة ستمس كل أسرة.
ماذا ستعني أزمة الأسمدة للعالم وللمستهلكين العاديين؟
حتى في السيناريو الأقل اضطراباً، سيؤدي ارتفاع أسعار المغذيات الاصطناعية إلى انخفاض غلة المحاصيل وارتفاع أسعار متاجر البقالة لكل شيء بدءاً من الحليب إلى اللحم البقري إلى الأطعمة المعلبة لشهور أو حتى سنوات قادمة في جميع أنحاء العالم المتقدم.
أما عن الاقتصادات النامية التي تواجه بالفعل مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي، فيهدد انخفاض استخدام الأسمدة بسوء التغذية، والاضطرابات السياسية، وفي نهاية المطاف خسائر في الأرواح البشرية كان من الممكن تجنبها.
نقلت "بلومبيرغ الشرق" عن "مارسيلو كوديا"، وهو مزارع في منطقة إنتاج الأرز في الفلبين قوله: "أقلل استخدام الأسمدة في دورة المحاصيل الحالية لأني لا أستطيع تحمل مثل هذه الأسعار العالية، وعلى بعد حوالي 12 ألف ميل، يواجه مزارع فول الصويا البرازيلي نفس الخيارات الصعبة."
وقال المزارع من الجيل الثاني، البالغ من العمر 33 عاماً: "إذا كانت الأسمدة باهظة الثمن، فسنستخدم كمية أقل من الأسمدة.. وإذا استخدمنا كميات أقل، فسننتج محاصيل أقل.. وسترتفع أسعار المواد الغذائية وسيعاني الجميع".
بينما صرّح "توني ويل"، الرئيس التنفيذي لأكبر شركة أسمدة نيتروجينية "سي إف اندستريز هولدينغز"، في مقابلة أجراها قبل بضعة أسابيع قائلًا: "أكبر مخاوفي هي أن ينتهي بنا الأمر بنقص حاد في الغذاء في أجزاء من العالم".
لماذا ترتفع أسعار الأسمدة؟
في عام 2021، كانت روسيا أكبر مصدر للأسمدة النيتروجينية في العالم وثاني أكبر مورد لكل من الأسمدة البوتاسية والفوسفورية، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.
قال "كريس لوسون"، رئيس قسم الأسمدة في شركة CRU، إن التجارة بين روسيا وبقية العالم لم تتوقف، لكنها تعطلت بشدة مؤخرًا، حيث ابتعد المستوردون ومستأجرو السفن عن البلاد في ضوء الحرب الجارية.
وأوقفت روسيا تصدير الأسمدة مؤقتًا، ومن المتوقع أن يكون لهذا القرار تأثير قوي في أسواق الغذاء العالمية، حيث تمثل حوالي 14% من صادرات الأسمدة العالمية.
علاوة على ذلك، يعتبر الغاز أحد المدخلات الرئيسية لإنتاج الأسمدة، وقد أدى ارتفاع أسعار الغاز إلى تقليص الإنتاج في مناطق مثل أوروبا، مما زاد من تقييد السوق.
كيف يغذي الاستخدام الأقل للأسمدة التضخم؟
في مذكرة بحثية حديثة، قال رئيس بنك Barclays البريطاني وكبير الاقتصاديين الأوروبيين "فابريس مونتاني" إن هذه الأزمة "قد يكون لها عواقب أكثر خطورة من ارتفاعات أسعار السلع السابقة، وذلك من خلال إضافة مزيد من الضغوط التضخمية، حيث يحتوي إنتاج الأغذية والأسمدة على نسبة عالية من الطاقة بسبب الميكنة والتصنيع والنقل".
بدون شك، سيكون الطعام الناتج أكثر تكلفة، إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية العالمية سلفًا بأسرع وتيرة على الإطلاق مع تضرر إمدادات المحاصيل بسبب الحرب في أوكرانيا، وصعد مؤشر الأمم المتحدة لتكاليف الغذاء العالمية بنسبة 13% أخرى في مارس/ آذار.
ولدى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، دون زيادة مقابلة في الدخل، تاريخ طويل في إثارة الاضطرابات الاجتماعية، وفي عامي 2008 و2011، أثار ارتفاع التضخم أعمال شغب بسبب الغذاء في أكثر من 30 دولة عبر آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.