من البديهيات التي لا سبيل لإنكارها، أن الطاقة الروسية، وإن كانت منبوذة، فإنها تظل سلاحًا فتاكا قد يضرب استقرار القارة العجوز برُمَّتها، فحتى الآن يفشل الأوروبيون وخاصة الألمان في التحرر من التبعية للغاز الروسي.
وعلى ما يبدو، فلا يوجد أحد – في المدى المنظور على الأقل – يمتلك القدرة على تقديم حل عاجل، أو طرح نفسه بديلا قادرا على تعويض روسيا التي توفر نحو 40% من الحاجيات الغازية لأوروبا.
كل ذلك يقودنا إلى نتيجة واحدة تؤكد أنَّ منازل القارة ستظل مُهدَّدة في مواجهة برودة الشتاء، فيما تواجه مصانعها خطر الإغلاق بسبب سلاح الطاقة الفتاك.
وهذا يوجهنا إلى سؤالٍ أعمق، عن السبب الذي أوصل دولًا عظمى وقوية مثل دول الاتحاد الأوروبي، التي تحسب سنينًا وعقودًا للأمام في سياساتها، إلى هذا الحائط المسدود في مواجهة معطيات محتومة.
وقد وردت الإجابة عن هذا السؤال في تقريرٍ حديث نشرته وكالة "الجزيرة" نستعرض عليكم فيما يلي أهم النقاط التي تطرق لها، لنحاول الوصول إلى الصورة الكاملة.
روسيا ليست إيران وموسكو لن تكون طهران:
منذ عام 2014، انهالت العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، بعدما ضمَّت روسيا شبه جزيرة القرم إليها فارِضة بذلك تسوية جغرافية جديدة غير تلك التي وضعتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.
لكنَّ هذه العقوبات التي كان يطبقها الغرب بلا هوادة، لم تحمل بالنسبة للروس ذلك التأثير المُوجِع الذي سعت له واشنطن، فموسكو ليست طهران مهما تكالبت عليها العقوبات، ورغم أن اقتصادها يُماثل بالكاد نصف حجم اقتصاد إيطاليا، فإنها قادرة بجدارة على خلق فوضى عالمية في أسعار النفط إلى جانب الحبوب والمواد الخام، كونها المُصدِّر الرئيس لتلك المواد.
والأهم من ذلك كله قدرة الروس الهائلة الهائلة في مجال الغاز، إذ تستطيع روسيا توفير أكثر من 300 مليار متر مكعب منه سنويا، ما يجعلها محطة وقود عملاقة بامتياز.
وفي السياق ذاته، يُفسِّر "جاسون فورمان"، مستشار الرئيس الأميركي الأسبق "أوباما"، عدم نجاح العقوبات الغربية في تركيع الاقتصاد الروسي بعدم لعب هذا الأخير أدوارا كبرى في الاقتصاد العالمي باستثناء الغاز والنفط.
أما الجانب الخفي لهذه الأسباب الذي لم يتطرَّق إليه "فورمان" في كلامه فتكشفه الأرقام الرسمية التي تؤكد الاعتماد الضخم للدول الأوروبية على الغاز والنفط الروسي، وهو ما قلب المعادلة رأسا على عقب، وغيَّر معها سياق التأثير.
وما حدث ببساطة، أنه بينما لا يمكن لأوروبا والولايات المتحدة فرض عقوبات على الطاقة الروسية بسبب الخوف على السوق العالمي، يمكن لبوتين من جهة أخرى أن يفرض حظرا جزئيا على توريد موارد بلاده الاستراتيجية من الطاقة، مُثيرا الفوضى والذعر لدى جيرانه الأوروبيين، ومُستفيدا في الوقت نفسه من الارتفاع الجنوني للأسعار.
حرب أوكرانيا تكشف المستور:
ظهرت المخاطر التي كان مستشار "أوباما" يحاول التستر عنها جليًا مع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ قفزت أسعار النفط إلى مستويات قياسية، ملامسة حاجز 140 دولارا للبرميل (قبل أن تتراجع لاحقا حول مستوى 100 دولار لحظة كتابة هذا التقرير)، كما وصلت أسعار الغاز إلى مستوى تاريخي بـ 3300 دولار لكل 1000 متر مكعب بسبب مخاوف تعطل الإمداد.
ومع تمدد أيام الحرب، يخشى العالم من ثورة مُدمِّرة أخرى في الأسعار، حال قرَّرت أوروبا حظر صادرات الطاقة الروسية، أو قرَّرت موسكو بنفسها اتخاذ هذه الخطوة في اندفاع غير مسبوق، خوفا من انهيار اقتصادها تحت وطأة العقوبات، وهو ما سوف يقود في النهاية إلى ارتفاع جنوني في الأسعار يؤثر على اقتصادات العديد من الدول ويدفعها ربما إلى الانهيار.
الروس قد أذاقوا أوروبا مرارة الحرمان سابقًا:
يستذكر الأوربيون ذلك المشهد المُصغَّر الصعب الذي شهدته أوروبا عام 2009. في ذلك العام، تجمَّدت أوروبا من البرد، وسقطت عدة دول فيها تحت طائلة الديون، إثر اتهام موسكو لكييف بسرقة الغاز المخصَّص لأوروبا الذي يمر عبر أراضيها، لتدفع هذه الأزمة روسيا إلى اتخاذ خطوات عقابية شملت قطع الغاز عن أوكرانيا وعن كل الزبائن الأوروبيين من خلفها.
دفع هذا الدرس القارة العجوز إلى البحث جديا عن بديل للطاقة الروسية، لكن رحلة البحث هذه انتهت بالفشل بعد أن عجز البدلاء الجُدد عن الوفاء بوعودهم، فالنرويج، وهي ثاني أكبر مورد للغاز لأوروبا بعد روسيا، تتجه حقولها إلى النضوب، أما هولندا، فقد اتجهت مضطرة لتخفيض إنتاجها إلى أقل من النصف بنحو 21.6 مليار متر مكعب، للحد من مخاطر الزلازل التي سبَّبها سحب الغاز من باطن الأرض، لتزيد روسيا بذلك من سطوتها على سوق الطاقة الأوروبي.
كل الطرق تؤدي إلى موسكو:
فشلت إذن كل محاولات أوروبا للاستقلال عن الغاز الروسي رغم المساعي الحثيثة لواشنطن التي حاولت رفع صادراتها إلى القارة العجوز، مُستفيدة من تربُّعها على عرش قائمة الدول المنتجة للغاز بنحو 914 مليار متر مكعب، وهو ما يفوق الحصة الروسية بنحو 300 مليار متر مكعب.
خاضت الولايات المتحدة مباحثات مُضنية مع أوروبا بهدف إعادة تسعير الغاز الأميركي لجعله أكثر تنافسية مع الغاز الروسي، لكن كل ذلك لم يكن كافيا لسحب يد الروس، نظرا لعدة اعتبارات اقتصادية بحتة، أبرزها أن الغاز الروسي يتمتع بأفضلية سعرية، نظرا لوصوله إلى العملاء عبر الأنابيب، بحكم القُرب الجغرافي وتوفر البنية التحتية، بعكس الغاز الأميركي الذي يُنقل مُسالا، بتكلفة عالية، عبر البحار.
وبخلاف البديل الأميركي، انخرطت أوروبا في خطط مختلفة، تركية وإسرائيلية وإيرانية وقطرية، تهدف جميعها إلى اقتطاع حصة أكبر من المورد الرئيسي التقليدي للأوروبيين، لكنها باءت بفشلٍ ذريع في محاولة أجرتها مع كل واحدة من هذه الدول.
هل التهديدات بحظر الغاز هي كلامٌ فارغ إذن؟
لم تغامر أوروبا حتى الآن بلي ذراع "بوتين" من بوابة حظر قطاع الطاقة، رغم وضع الوكالة الدولية للطاقة خطة عاجلة من عشر خطوات للاتحاد الأوروبي، بهدف الاستغناء عن الغاز الروسي في غضون عام، حتى لا يقع الأوروبيون فريسة للدب الروسي في الشتاء المُقبل.
وتتضمَّن تلك الخطة البدء الفوري بتنويع إمدادات الوقود الأحفوري من عدة دول بعيدا عن روسيا، وتقليص نسبة الاعتماد من روسيا، والتحوُّل بشكل أسرع إلى الطاقة المتجددة، والأهم من ذلك عدم تجديد العقود مع موسكو بعد انتهائها.
يراهن الغرب عبر هذه الخطوات، التي يُشكِّك الروس في أن تؤتي أُكلها في المدى القريب، على بدء فصل جديد من العقوبات لا تستطيع موسكو الرد عليها تشمل قطاع الطاقة.
على أي حال، من المؤكَّد أن روسيا ليست إيران أو فنزويلا، وهي تمتلك أوراقا يَعُدُّها اقتصاديون ذات تأثير فتاك في الاقتصاد العالمي، مثل كونها أكبر مصدر للمعادن في العالم، بما يعنيه ذلك من قدرتها على عرقلة الصناعات الرئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا من خلال تقييد إمدادات المعادن.
تبدو اللعبة الاقتصادية بين الغرب وروسيا إذن بمنزلة سباق على مَن يطلق النار على قدميه أولا، ولا يمكن لأي طرف فيها أن يدَّعي أنه سيكون قادرا على إلحاق الضرر بخصمه دون أن ينال نصيبه من الأضرار أولا، الأمر كله يتعلَّق بحساب هذه الأضرار، ومدى الرغبة في تحمُّلها في نهاية المطاف.