تواجه حكومات العالم الأزمة الحالية بخطط اقتصادية أو بحزم دعم عاجلة أو ببناء تحالفات اقتصادية جديدة وتأمين الموارد من مصادر بديلة. لكن كل هذه المصطلحات غير موجودة في قواميس العديد من الحكومات العربية، بل إنها تسارع إلى اتهام التجار وتوجيه غضب الشعوب نحوهم مع كل أزمة.
وهكذا، فقد دخلت العديد من الحكومات العربية في حروب مفتعلة مع التجار، وشنّت حملات دعائية في وسائل الإعلام الحكومية وفي الأسواق، بدعوى ضبط الأسعار وتوفير السلع، التي تضررت إمداداتها، ولا سيما القمح، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الغربية الصارمة على موسكو.
وهذا التوجه لم يكن حكرًا على بلدٍ عربي واحد، بل كان توجهًا عامًا اتبعه الجميع تقريبًا. لكننا مع ذلك نرى المشهد أكثر صخبًا في بلدانٍ مثل سوريا ومصر وتونس.
وتأتي هذه التحركات الحكومية، في الوقت الذي حذر البنك الدولي، الأسبوع الماضي، من أنّ ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا قد يفاقم مخاوف الأمن الغذائي القائمة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وقد يؤدي إلى تنامي الاضطرابات الاجتماعية.
بدايةً من سوريا:
تصريحات الحكومة السورية كانت متناقضة وتعاكس بعضها كما العادة، لكنها صبت جميعًا في مكانٍ واحد، ويمكن اختصارها بجملة: "ليس لدينا أزمة ونمتلك ما يكفي من الإمدادات، لكن الاحتكار وجشع التجار تسبب برفع الأسعار في الأسواق".
وحين لم تنفع هذه الحجة، توجهت الحكومة إلى التحجج بأزمة أوكرانيا وروسيا، ليسارع السوريون بالرد أن الأسعار في سوريا قد تجاوزت بأضعاف تلك الدول المنخرطة بالحرب، فتغير مثل "الطبل بدوما والعرس بحرستا" ليصبح "الحرب بأوكرانيا والغلاء بسوريا".
نظرة على الأوضاع في مصر:
بينما تتصاعد أصوات المواطنين المكتوين بالغلاء في مصر، عقد رئيس الوزراء "مصطفى مدبولي"، الثلاثاء الماضي، اجتماعاً في حضور وزراء التموين والزراعة والداخلية والمالية والتجارة والصناعة، ورئيس جهاز حماية المستهلك، قائلاً إنّ الحكومة لن تسمح بقيام بعض التجار "الجشعين" بتخزين وإخفاء السلع الأساسية من أجل رفع أسعارها في الأسواق.
وتهافت الإعلام الحكومي لتصدير الأزمة نحو التجار والمواطنين أيضاً بسبب الاستهلاك، فيما خرجت فرق رقابية من وزارات التموين والتجارة لتداهم المتاجر الصغيرة في بعض أحياء القاهرة، ترافقها كاميرات تصوير، في محاولة لاختزال أسباب الغلاء إلى هؤلاء التجار.
ويرجع الرئيس "عبد الفتاح السيسي"، في مناسبات متكررة، الفقر والغلاء، إلى زيادة الإنجاب والاستهلاك، بينما يؤكد مراقبون أن توجيه أموال ضخمة إلى الكثير من المشاريع الإنشائية العملاقة على غرار العاصمة الإدارية الجديدة شرقيّ القاهرة، بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية السيئة، أدت إلى تراجع المستويات المعيشية لمعظم المصريين.
نسمع النغمة نفسها في تونس:
في تونس تحمّل السلطات المحتكرين مسؤولية اختفاء سلع أساسية من الأسواق، متهمة شبكات توزيع الغذاء بالتلاعب بقوت المواطنين، بينما يحذر مهتمون بالشأن الاقتصادي من مخاطر تعويم قضية ندرة المواد الأساسية في البلاد وحصرها في مكافحة الاحتكار، في وقت تسارع كل الدول إلى تأمين غذاء شعوبها على وقع الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
وبدأت فرق مشتركة من الأمن وجهاز المراقبة الاقتصادية بتنفيذ خطة رئاسية لتعقّب من وصفتهم بالمحتكرين عبر مداهمة مخازنهم ومصادرة السلع المخزنة، في ثاني حملة وطنية لملاحقة التجار منذ بدء الرئيس "قيس سعيّد" بما تُعرَف بالتدابير الاستثنائية التي اتبعها منذ 25 يوليو/تموز 2021 وجمع بمقتضاها كل السلطات في يديه.
لكنّ السوق التونسية تعاني منذ أشهر طويلة من نقص في مواد أساسية لموائد التونسيين، ولا سيما الدقيق (الطحين) والزيوت النباتية والسكر والأرز، وهي مواد تدعمها الدولة في إطار سياسة اجتماعية تعتمدها تونس منذ أكثر من خمسة عقود.
ويقول وزير التجارة السابق والخبير الاقتصادي "محسن حسن" لصحيفة "العربي الجديد"، إن "شماعة الاحتكار التي تعلّق عليها السلطة أسباب اختفاء مواد أساسية من السوق ليست إلّا جزءاً من مشاكل متراكمة تتجه بالبلاد إلى اقتصاد الندرة".
في المقابل، تنشر الوزارات المكلفة تنفيذ حملات تعقّب من تصفهم بالمحتكرين بلاغات يومية عن حصيلة المداهمات "لأوكار الاحتكار والمضاربة" وحجز آلاف الأطنان من الدقيق والسكر والبيض ومختلف السلع المختفية من الأسواق.
لكنّ تجار الجملة وأصحاب مخازن الغذاء ينفون تهم الاحتكار والمضاربة التي تلاحقهم، مؤكدين أنهم أصبحوا في مرمى الملاحقات القضائية، في إطار "حملات السلطة الدعائية للتغطية على عجزها عن توفير قوت التونسيين".
مواجهة قريبة بين الحكومة والتجار في الأردن:
نظرة إلى الوضع في الأردن، تبيّن لنا أن المواجهة بين الحكومة والتجار على الأبواب. إذ يقول مسؤول حكومي في تصريحات لصحيفة "العربي الجديد" إنّ الحرب الروسية الأوكرانية لم تؤثر مباشرة في الأسعار، لوجود مخزون من المواد الغذائية والسلع الأخرى، وإنّ آثار الحرب تحتاج إلى وقت حتى تنعكس على السوق المحلية، بينما لوّح تجار بالفعل بزيادة الأسعار.
في المقابل، يؤكد رئيس نقابة المواد الغذائية "خليل الحاج توفيق"، أن ارتفاع أسعار الزيوت يعود إلى ما قبل الأزمة الروسية الأوكرانية، منتقداً الاتهامات التي توجَّه إلى التجار، وتحميلهم مسؤولية ارتفاع الأسعار.
وطالب "توفيق" الحكومة بخفض ضريبة المبيعات والرسوم المفروضة على السلع الغذائية وغيرها هذه الفترة لمواجهة ارتفاع الأسعار عالمياً.