لطالما كان الذهب على مر التاريخ معيارًا للقيمة، بل هو الأصل المالي الوحيد الذي اجتمع عليه البشر بالاعتراف منذ آلاف السنين حتى اللحظة، فالذهب يبقى ذهبًا سواءً كنت في عصر الفرعون "توت عنخ آمون" أو في عصر الرئيس "جو بايدن".
لكن أليس ذلك غريبًا، لماذا حافظ الذهب على قيمته طوال التاريخ، ولماذا اعترف البشر به وقدروه دونًا عن كل المعادن الثمينة الأخرى؟
إذا كنت ستقول إن السبب هو فائدة الذهب، سنخبرك أن الكثير من المعادن لها فوائد صناعية أكثر من الذهب بأضعاف. وإذا كنت ستقول إن السبب هو جمال الذهب وندرته، فسنخبرك أن هذا ذوق شخصي ويوجد معادن أخرى نادرة وجميلة، فلماذا لم تستخدمها الحضارات الأخرى بدلًا عن الذهب؟!
تخيل معنا أنك أول إنسان اكتشف الذهب قبل آلاف السنين:
لا بد أن أول من اكتشف الذهب لم يعتقد ولو لبرهة أن هذا المعدن سيحمل مع مرور الوقت قيمة نقدية أساسية.
وبشكل طبيعي، لم يقم مكتشف الذهب أو مكتشفوه بالتقاط قطعة من على الأرض والتفكير قليلًا ثم القول: "آه، قد جنينا بعض المال". لاسيما أن المعتقد السائد يقول إن أول مكتشفي الذهب كان قد تفحصه بفضول ليس أكثر.
قد يكون أول من اكتشف الذهب وفتن بلمعانه قد قرر اقتناءه لنفسه كقطعة نادرة براقة، أو تقديمه كهدية لأحد الملوك الذين يحبون المفاخرة ويقدرون المقتنيات الثمينة. أو أنه أهداه لزوجته التي قررت التفاخر به أمام باقي النساء، وقمن بدورهن بحث أزواجهن على البحث عنه فتولدت له قيمة بكل بساطة!
من هذا المنطلق يمكن القول إن الذهب اكتسب حظوته لسببين رئيسين: اللمعان والندرة، لكن ذلك لا يفسر تحوله إلى عملة ونقد.
رحلة الذهب من تحفة نادرة إلى قطعة نقدية:
من المرجح أن نظام المقايضة كان أول وسيلة للتبادلات التجارية بين البشر، لكن المقايضة كانت نظامًا معيوبًا، لأنني قد أتعب كثيرًا في الحصول على حطب لكنني لا أستطيع مقايضته بما يكفي من الطعام واللباس إلا في الأوقات التي يكثر فيها الطلب على الحطب (فصل الشتاء مثلًا).
من هذا المنطلق تولدت الحاجة إلى أصل مالي يحدد القيمة، ويبسط التبادلات التجارية، حيث يجب أن يمتلك هذا الأصل خصائص فريدة أهمها: الاعتراف – الندرة (لا يحصل عليه الجميع فيفقد قيمته) – إمكانية التخزين (لا يفسد أو يصدأ) – إمكانية التشكيل والسك.
ولكم أن تخمنوا ما المعدن الذي حمل كل هذه الخصائص في آنٍ واحد... نعم إنه الذهب!
وقد عُرف الذهب بخصائصه المادية المميزة، فهو أكثر المعادن معاندة للتفاعل (حتى مع الأوكسجين)، فضلاً عن كونه حميداً في كل البيئات. وبالإضافة إلى ذلك، فهو معدن لا يتأكسد أو يتآكل أو يتشوه مع مرور الوقت.
على أي حال فالذهب لم يكن أول نقدٍ بالتاريخ، بل كان أول شكل للنقود، هو حجر السبج البركاني، الذي استخدم في التجارة المنظمة قبل 11 ألف عامًا، وفقاً لعلماء الآثار.
لكن هذا الحجر لم تكن له أي فرصة للمنافسة مع الذهب الذي يبدو وكأنه خُلق ليكون نقدًا على مر الحضارات البشرية.
ولم يحدث الأمر بين ليلة وضحاها، لكن الذهب أمسى خياراً طبيعياً للاستخدام في العمليات التجارية، كوسيلة معيارية ذات قيمة للتبادل التجاري بسبب ندرته وسهولة نقله ومقاومته الصدأ والتآكل، فضلاً عن سهولة تمييزه بين المعادن الأخرى أيضاً. وأصبح الذهب، عند إذ، يملك قيمة نقدية.
علاوةً على كل ذلك، تعتبر عملية تكرار الذهب من معدن خام إلى معدن نقي عملية شاقة، وتتطلب العديد من المواد الكيميائية قوية التأثير إلى جانب الحرارة الشديدة، الأمر الذي جعل إنتاجه – بالشكل النقدي أو النقي – محصورًا لدى الملوك ومن يملكون السلطة ومن تحت يديهم العمال. فكانت هذه الميزة تمنع الذهب من أن يصبح في أيدي العامة وتُشعر الأسياد والنبلاء بالاطمئنان أنهم يمتلكون صلاحية خاصة تشبع كبريائهم وفخرهم.
انتقال الذهب بين الحضارات:
لو كان الذهب هو معدن خاص بحضارة معينة لكان اندثر استخدامه كنقد وحامل للقيمة المالية منذ زمنٍ طويل. لكنه استطاع أن يفتن البشر في كافة بقاع الأرض، وأجج فيهم روح التنافس والرغبة بالتفاخر.
وحين أثبت أهليته للتخزين لمئات وآلاف السنوات، استهدف الطمع المكبوت بالنفس البشرية. فبات الملوك يخزنون الذهب لأجيال ليكون هو الدليل على قوتهم وثرائهم، ويدفنونه معهم بالمقابر معتقدين أنه سيجعل لهم هيبةً بعد الممات كما كانت هيبتهم في الحياة.