إذا سألنا شخصًا غير مطلعٍ على تفاصيل عالم الاقتصاد والسياسة على الإطلاق هذا السؤال: "من هو أكبر منافس تجاري للولايات المتحدة في العالم"، فسيجيب بشكل بديهي وفورًا أنها الصين. وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم ترجح كفة الميزان إلى واحدة من هذه القوى العظمى واستمرا بتهديد مصالح بعضهما لعشرات بل مئات السنين...؟
بادئ ذي بدء لا بد من القول إن الصراع الأمريكي الصيني هو صراع ضروري للمنطقة بهدف الحفاظ على التوازنات. والأمر ليس أن أحدهما يحاول القضاء على الآخر، فهما أعداءٌ نعم لكنهما يحتاجان بعضهما أكثر مما نتصور.
وهكذا فقد ظلّ الرئيس الأميركي "جو بايدن" يواصل نهج سلفه "ترامب" المتشدد إزاء الصين رغم الخلافات بينهما، ويؤمن "بايدن" أن على الولايات المتحدة فك ارتباطها مع بكين بتقليل اعتمادها على المنتجات وسلاسل الإمدادات الصينية، وذلك لأسباب اقتصادية ولدواعي الأمن القومي.
وعلى الرغم من دعم الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) لتلك المساعي، فإن الفصل بين اقتصادي البلدين يبدو صعب المنال، حسب مقال بمجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) الأميركية، للكاتبين "جيفري كوسيك" أستاذ القانون المساعد بجامعة أريزونا، و "راجان مينون" أستاذ العلاقات الدولية بكلية مدينة نيويورك.
لماذا لا يمكن للولايات المتحدة تحقيق النجاح بدون الصين؟
يقول المقال إن إدارة "بايدن" إذا أرادت تحقيق النجاح، فإن الأمر لن يقتصر على إعادة ترتيب قطاعات كبيرة من اقتصادها "المعولم"، بل عليها أيضا أن تضمن مشاركة الدول الأخرى التي تعدّ من الشركاء التجاريين والمستثمرين الكبار مع الصين، وهي أهداف سيكون من الصعب تحقيقها أكثر مما يتوقع كثيرون في واشنطن.
وحذّر المقال من مغبّة فك الارتباط مع الصين، لا سيما في الجانب الاقتصادي، وأن على إدارة الرئيس "جو بايدن" التخلي عن انتهاج سياسات أحادية والعمل على حشد الدول التي ترتبط بعلاقات تجارية وطيدة مع بكين إلى جانبه.
الولايات المتحدة تصر وتعاند:
ما انفك "بايدن" حتى الآن يعتمد جهود إدارة "ترامب" في الفصل بين الاقتصادين، لكن بمقاربة أكثر ليونة، ففي يونيو/حزيران الماضي وضع البيت الأبيض خطة شاملة لزيادة الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على سلاسل الإمدادات العالمية "الهشة"، بخاصة تلك التي مصدرها الصين.
وتركز تلك الخطة في الأعم الأغلب على الصناعات الحيوية كأشباه الموصلات التي شهدت الولايات المتحدة انخفاضا حادا في حصتها السوقية منها في العقود الزمنية الأخيرة، وكذلك المعادن الأرضية النادرة التي تعوّل فيها على الصين بنسبة تبلغ نحو 80% من احتياجاتها.
وفي الأثناء، فإن الرسوم الجمركية التي كان "ترامب" قد فرضها على الواردات من الصين أبقى عليها "بايدن" مرتفعة، واتخذ خطوات لمنع الشركات الأميركية من الاستثمار في 59 شركة صينية لها ارتباطات بالمؤسسة العسكرية الصينية أو بإنتاج معدّات مراقبة، وبعض تلك الشركات مدرجة في قائمة "ترامب" السوداء مثل عملاق الاتصالات "هواوي" (Huawei).
كما يعمل "بايدن" والأعضاء الديمقراطيون في الكونغرس على الدفع باتجاه خفض اعتماد الولايات المتحدة على الواردات الحيوية من الصين، في حين يحذر منتقدو فك الارتباط الاقتصادي -ومنهم غرفة التجارة الأميركية على وجه الخصوص- من أن الفصل بين اقتصادي البلدين سيعيق سلاسل الإمدادات القائمة، ويفاقم التأخير في الإنتاج، ويجبر الشركات والمستهلكين على تحمل زيادة الأسعار.
وإزاء ذلك، يواجه "بايدن" مطالب ملحّة من الشركات الأميركية بضرورة وقف العمل بالرسوم الجمركية السائدة في عهد "ترامب" الذي أدى تصرفه المنفرد إلى عواقب تحمّل وطأتها الاقتصاد الأميركي وحده، وقد دفع رفع تلك الرسوم على الواردات من الصين الرئيس السابق إلى زيادة تكلفة البضائع المصنعة في الصين على المستهلكين في الولايات المتحدة بمقدار 80 مليار دولار في عام 2018 وحده، كما أسفر عن فقدان ما بين 250 ألفا إلى 300 ألف وظيفة.
ومع ذلك لم ينخفض العجز التجاري مع الصين إلا بنسبة متواضعة، من 346.8 مليار دولار في 2016 إلى 344.3 مليارا في 2019.
هل يمكن للولايات المتحدة أن تستقل عن ارتباطها بالصين؟
لكي تحظى إستراتيجية فك الارتباط الاقتصادي بين البلدين بأي فرصة للنجاح، يتعين على "بايدن" التخلي عن سياساته الأحادية الجانب وحشد عمل جماعي تشارك فيه دول لها علاقات تجارية كبيرة مع الصين واستثمارات هناك.
ورغم أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي انخرطا مجددا في مساعٍ للحد من سرقة حقوق الملكية الفكرية التي يلقى اللوم فيها على الصين إلى حد كبير في مجالات مثل برمجيات توربينات الرياح وتكنولوجيا الاتصالات والمركبات الذاتية القيادة، فإن ذلك لا يعني -وفقا لمقال فورين بوليسي- أن الاتحاد الأوروبي على عجلة من أمره لفك ارتباطه بالصين.
فخبراء التجارة الأوروبيون يرون أن من شأن ذلك أن يعيق النمو ويقلل من المداخيل عبر دول القارة العجوز، ومن أجل أن تكون لإستراتيجية بايدن لفك الارتباط مع الصين جدوى، لا بد أن تلتحق بها اليابان وكوريا الجنوبية ودول آسيوية أخرى ترتبط ببكين بعلاقات تجارية واقتصادية حيوية.
ويرى كاتبا المقال أن مثل هذه الإستراتيجية لا يُرجّح أن تدفع الصين إلى تغيير سلوكها نظرا للصعوبات التي تكتنف تنظيم تحالف متماسك تقوده الولايات المتحدة ويكون ملتزما بفك الارتباط الاقتصادي مع بكين.
ثم إن الصين اتجهت إلى تقليص اعتمادها على نمو اقتصادي يقوده قطاع الصادرات، لتستعيض عنه بالطلب المتزايد على سلعها من المستهلكين المحليين، وحتى لو قُدِّر لفك الارتباط أن يجد طريقه فإن الحكومة الصينية ستبقى ملتزمة بأولوياتها الأساسية المتمثلة في إعادة توحيد تايوان أو قمع الحركات المتمردة على نظامها السياسي "الاستبدادي".
ورغم كل ذلك، ما يزال لسياسة فك الارتباط جانبا مشرقا وإن لم يكن لها كبير تأثير على الصين، فتقليل اعتماد الولايات المتحدة على سلاسل الإمدادات الهشة قد يساعد في وقاية الاقتصاد من عراقيل في المستقبل كتلك التي عانى منها في السنتين الماضيتين.
وتخلص مجلة فورين بوليسي في مقالها إلى أن الاستثمار في القدرات المحلية تأخر كثيرا، مشيرةً إلى أنه إذا تسنّى للولايات المتحدة القيام بذلك وتدعيم شراكاتها مع حلفائها المتقاربين معها في التفكير فإن ذلك سيكون أفضل للجميع.