تشهد مدينة حلب، التي كانت في يومٍ ما بمثابة مصنع سوريا والشرق الأوسط، حالة من الركود المقيت، بفعْل عجز صناعيّيها عن النهوض بمنشآتهم على رغم إرادتهم ذلك.
وبينما يحيل البعض السبب وراء ما يحدث بالكامل إلى تداعيات العقوبات الغربية المفروضة على البلاد، يرى صناعيو المدينة أن معاناتهم تتحمّل مسؤوليتها الحكومة بشكل رئيس، كونها لا تزال تتعامل معهم بمنطق الجباية لا الرعاية.
في هذا الصدد، فقد رصدت جريدة "الأخبار" في أحدث تقاريرها حول هذا الموضوع، بيانات ومعطيات هامة حول وضع الصناعة والتجارة في حلب وما آلت إليه الأمور هناك.
حلب قبل الحرب:
في فترةٍ ما، ازدهرت مدينة حلب آخذةً معها الصناعة في سوريا نحو الأمام، حتى أصبحت العاصمة الصناعية للبلاد، والتي تحوي 38 ألف منشأة صناعية متوزّعة على مساحتها، وتُصدّر منتجاتها إلى أكثر من 102 دولة في العالم، من أفخر أنواع الألبسة والمنسوجات والصابون وزيت الزيتون والحبوب والأثاث والأدوية وهياكل السيارات والبرمجيّات.
حتى عام 2011، ظلّت حلب أشبه بخزانة سوريا ومصرفها المالي، محتلّةً المرتبة الأولى بين المحافظات من حيث المساهمة في الاقتصاد السوري، حيث بلغت مساهمتها في الناتج المحلّي الإجمالي ما يعادل ربع إنتاج سوريا (24%)، وفقاً للتقديرات الرسمية.
فترة ما بعد الحرب:
منذ كانون الأول 2016، بدأت ملامح الحرب في حلب بالبهوت، ليبدأ الحديث سريعاً عن إعادة تشغيل عجلة الإنتاج في المدينة، لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر هذه المرّة، إذ إن جزءاً كبيراً من المنشآت لم يستطع العودة إلى العمل، فيما تلك التي استأنفت الإنتاج تواجِه عقبات كثيرة.
وبحسب عضو غرفة صناعة حلب "محمد صباغ"، فقد "عادت 18 ألف منشأة وورشة للعمل منذ عام 2017، توزّعت على الصناعات النسيجية والكيميائية والغذائية والهندسية، لكن أصحاب الورش والمنشآت الصناعية هذه، ما زالوا يشْكون انقطاع الكهرباء وفقدان الوقود وغياب أسواق التصدير، وعدم تنشيط المعابر الحدودية التي لم تعمل بشكل حقيقي حتى الآن، وخصوصاً معبرَي البوكمال مع العراق، ونصيب مع الأردن".
عاصمة سوريا الاقتصادية تحصل على فُتات الدعم الحكومي:
تحظى حلب اليوم بالحصّة الأقلّ من الدعم الحكومي وعملية إعادة إعمار الأحياء السكنية والبنية التحتية، وفقاً للصناعي الحلبي، "عاطف طيفور".
ويرى طيفور أن المطلوب اليوم "هو تنفيذ توصيات المؤتمر الصناعي الثالث حلب – 2018 ، ومنها تعويض الصناعيين عن معاملهم وآلاتهم التي دُمّرت ونُهبت، وتحفيز الصناعات المُعدّة للتصدير، وتخفيض تكاليف الإنتاج، خاصة سعر الكهرباء، وأجور النقل وارتفاع أسعار المحروقات".
وفي ظلّ تدوير توصيات المؤتمرات الصناعية، ومراوحتها في أروقة الحكومة، لم ينجح صناعيّو حلب في النهاية في تأمين أسواق خارجية لتصدير إنتاجهم، حتى مع الدول المتحالفة مع الحكومة كالصين وروسيا، كما لم ينجحوا في اختراق الأسواق العربية حتى الآن.
حلب تعمل بـ 30% فقط من طاقتها... والحكومة لا تأبه بالـ 70% المتبقية:
وفقًا لتقرير الجريدة، تعمل حلب اليوم بطاقة إنتاج تقارب الـ 30% ممّا كانت تعمل به قبل الحرب، ما يعني أن الصناعة السورية استعادت بعضاً من عافيتها فقط.
وذلك بسبب أن الحكومة، وفقاً لأحد الصناعيين الذي فضّل عدم ذكر اسمه، "ما زالت تتّبع أسلوب الجباية بدلاً من الرعاية، وتتّخذ من العقوبات على سوريا سبباً وحيداً لكلّ ما يعصف بنا، بدءاً من الطوابير على محطّات الوقود، مروراً بفقدان السلع، وصولاً إلى تآكل مستوى الرواتب والأجور".
ويشير إلى أن "الاقتصاد السوري لم يكن مرتبطاً بالاقتصاد الأوروبي أو الأميركي بشكل كامل، حتى يُصاب بالشلل والعطب التامَّين كما هو اليوم".
متابعاً أن "معظم الشركاء التجاريّين الحقيقيين لسوريا، لا يطبّقون عقوبات عليها، والعراق مثلاً كان يستقبل في عام 2010 نصف صادراتنا غير النفطية (48.1 %)، ما يساوي 114 مليار ليرة في ذلك الوقت".
كما يُبدي الصناعي دهشته من "إصرار الحكومة على الابتعاد عن القاعدة التي يمكن أن تساهم بشكل كبير في حلّ الأزمة الاقتصادية، وهي الإنتاج المحلّي، خاصّة إذا ما تَوفّر لهذه القاعدة مَن يرفعها ويطبّقها، ولا سيّما صناعيو حلب الذين نزحوا إلى اللاذقية عقب اندلاع الحرب، فلم يكتفوا بمضاعفة عدد سكان المدينة الساحلية، بل ضاعفوا من حركتها الاقتصادية وحوّلوا المدينة الساحلية من مدينة سياحية، إلى مدينة مليئة بورش الخياطة وتصنيع الأحذية والألبسة".
ويختم حديثه قائلاً: "نحن قادرون على العمل والإنتاج والنهوض، لكن على الدولة أن تتركنا نعمل، وألا تُعاملنا وفق مبدأ الجباية، من دون الرعاية".