يعاني سوق الصرافة والنقد في لبنان من اضطرابات شديدة نظرًا لتفلته من الضوابط القانونية، ونتيجةً لذلك عاشت الأسواق طوال أيام قلقًا غير مسبوق بعد إثارة الشكوك حول أوراق الدولار البيضاء، التي أصبحت توصف بـ"الدولار القديم"، إما لجهة طبعتها أو لاصفرارها أو لاهترائها جزئيًا.
وصار معظم الصرافين يرفضون شراء الدولار الأبيض لمجرد أن طبعته قديمة، ويضعون الزبائن أمام شرطين: إما استبدالها بأوراق دولار أخرى تكون زرقاء (أي طبعة جديدة)، وإما قبولها لقاء عمولة مرتفعة تصل إلى 10% على كل مئة دولار.
الجدير بالذكر، أنه ثمة كميات كبيرة من الدولار الأبيض مخزنة في منازل اللبنانيين منذ حدوث أزمة المصارف (2019) واتخاذها إجراءات غير قانونية باحتجاز أموال المودعين بالدولار وفرض قيود على سحبها.
دفع ذلك السفارة الأميركية في بيروت لإصدار بيانٍ أكدت فيه أن كل تصاميم الاحتياطي الفدرالي الورقية عملة قانونية صالحة للمدفوعات بغض النظر عن تاريخ إصدارها، وتشمل جميع الفئات الورقية من سنة 1914 إلى اليوم.
لكن البيانات الرسمية لم تلجم فوضى السوق النقدي، كما أكدت وكالة "الجزيرة" التي رصدت بعض محال الصيرفة، التي يبرر أصحابها رفض التداول بالدولار الأبيض بعدم الاطمئنان بعد البلبلة، وأن فرض شروط الشراء والبيع للدولار يكفله لهم منطق العرض والطلب، ولأن الطبعة القديمة موجودة بكميات كبيرة بالسوق، بحسب البعض.
ما خلفيات التشكيك بالدولار القديم؟
يعتبر نقيب الصرافين "طوني مارون" أن من "اخترع إشكالية الدولار الأبيض هم أصحاب المصارف لأنهم ضخوا كميات كبيرة منها بالصراف الآلي، وأصبح المواطن يحملها للصرافين ومعظمها أوراق مهترئة".
وبحسب النقيب، فإن شريحة من المواطنين هرعت لتبديل مدخراتها من الدولار الأبيض، موضحًا أن من حق "الصرافين رفض تبديل الأوراق، وطلب عمولة عندما تشكو ورقة الدولار من الاصفرار أو الاهتراء".
ويوجد في لبنان 263 صرافا قانونيا ينتسبون للنقابة مقابل نحو 150 صرافا غير منتسبين للنقابة، لأن الانتماء إليها غير إلزامي، بحسب "مارون".
وهنا جوهر المشكلة برأي خبراء، خصوصا وأن عدد الصرافين غير القانونيين تجاوزوا الآلاف بعد انهيار الليرة، وامتهنها كثيرون بطرق غير قانونية، نظرا لتوفّر تطبيقات التداول إلكترونيا على الهواتف، وسعيا لكسب أرباح طائلة عبر الاتجار بالدولار الذي شحّ في لبنان.
الدولار في لبنان يصبح سلعة بحد ذاته:
يكمن لبّ الأزمة وفقًا لمراقبين في أن الدولار أضحى سلعة قائمة بذاتها، وهو ما يؤكد عليه خبير المخاطر المصرفية "محمد فحيلي"، و"المقصود غياب قاعدة واحدة تحكم التداول النقدي في لبنان". فقد أصبح السوق مساحة لمن يسميهم فحيلي بـ "صيادي الدولار"، وهم مجهولو الهوية وقد يكونون بأعلى الهرم أو أسفله، ويخرقون حتى ضوابط العرض والطلب للعملات "مقابل الغياب المتعمد للسلطات النقدية والسياسية والأمنية والقضائية".
والمسار النقدي في لبنان يقود، برأي "فحيلي"، إلى إثارة الشكوك حول أوراق الدولار كسبيل جديد لكسب الأرباح، سواء من المصارف أو الصرافين أو التجار أو شركات شحن الأموال أو شخصيات نافذة أخرى.
يُذكّر الخبير أنه في يونيو/حزيران 2021 ظهرت أيضا أزمة الدولار الأبيض والأزرق في فلسطين المحتلة، وأصدرت حينها وزارة الاقتصاد في غزة توضيحا عن مراقبتها لتمييز بعض الصرافين بين الدولار الأبيض والأزرق.
وأوضح أن توقف شركة "مكتف" عن شحن الأموال دفع بعض المصارف للجوء إلى شركات بديلة للشحن في الخارج تأخذ عمولة أيضا بسنتات بسيطة وأحيانا تُدفع على الوزن.
هذا الأمر، تؤكد عليه الصحافية المتخصصة بالشأن الاقتصادي "عزة الحاج حسن"، مضيفةً أن توقف شركة "مكتف" عن شحن الدولار منذ شهر دليل إضافي على توقيت البلبلة حول أوراق الدولار، ولا تستبعد أن تكون الشركة نفسها أحد الدافعين لإثارتها بهدف الضغط لرفع القيود القضائية عنها، بحسب رأيها.
وأوضحت أن شحن الأموال عبر هذه الشركة الأكبر كان فوريا وسريعا، والعمولات التي تتقاضها زهيدة جدا، خلافا لما يطلبه الصرافون راهنا من عمولات غير منطقية. وتجزم أن البلبلة حول أوراق الدولار متعمدة من بعض أطراف الدورة النقدية.
وقالت في حديثٍ مع موقع "الجزيرة" إن الصرافين والتجار وربما المصارف يستغلون الأمر بذريعة مواجهة صعوبات شحن الدولار إلى الخارج بطريقة غير سلسلة وسريعة.
وتجد "عزة الحاج حسن" أن التمييز بين أوراق الدولار، رغم أنه أقوى عملة في العالم، قد يستمر مدة طويلة في لبنان، نظرا للوصمة التي لحقت بالدولار الأبيض وجعلته موضع شك.