إيفرجراند، هي شركة العقارات الصينية التي تمتلك أصولًا بحجم اقتصاد دولة بأكملها (352 مليار دولار)، تبدو الآن على وشك الانهيار. وانهيار هذه الشركة ليس كفشل أو إفلاس أي نشاط تجاري عادي، بل هو هزة كافية لأن تؤرق العالم بأجمعه؛ لدرجة أن البعض يرى أنها الشرارة المطلوبة لأزمة مالية عالمية شبيهة بأزمة الرهن العقاري الشهيرة عام 2008.
السبب السطحي لأزمة الشركة:
كما يظهر في الرسم البياني أعلاه؛ كانت تتسم أعمال الشركة بالنشاط المحموم للغاية والنمو المتسارع في الإيرادات والمشاريع، فكانت أرقام أدائها المالي حتى 2018 أكثر من مذهلة بمعدل تضاعف بلغ 6.5 مرة مقارنة بسعر سهمها في بداية الطرح نوفمبر/ تشرين الثاني 2009.
لكن بداية من 2018 بدأت تخمد وتيرة المبيعات والإيرادات التشغيلية، بالتزامن مع ارتفاع مصروفات الديون التي جاءت من قروض تم التوقيع عليها في فترة فرط النشاط بإغراء من التوسعات الكبيرة وأحجام الأعمال والإقبال على منتجات الشركة، لكن كل ذلك كانت الأسباب الظاهرية أو السطحية فقط لما حدث.
الأسباب العميقة لأزمة إيفرجراند:
بدأ الأمر مع تدخل الحكومة الصينية في السوق العقاري عام 2017؛ حينما سعت لتعسير وتصعيب لوائح البناء والتملك في العقارات والإسكان. وذلك بهدف إخماد الغليان وفرط النشاط وارتفاع الأسعار بالسوق العقاري الصيني بأي طريقة قبل أن تنفجر الفقاعة، وبالفعل نجحت مساعي الحكومة، لكن هذا حدث و "إيفرجراند" ملتزمة باستحقاقات وقروض قصيرة الأجل لعدد من البنوك والممولين.
لكن ما الذي دفع "إيفرجراند" لهذه المخاطرة والخطوة المتهورة؟
في الواقع إن سياسة الطفل الواحد في الصين، ساهمت في الماضي بزيادة نسبة كبار السن على حساب الشباب وهو ما تسبب في انخفاض معدلات نمو قطاع الإسكان، وهو ذاته ما اضطر الحكومة الصينية إلى إنهاء العمل بهذه السياسة تباعاً في 2015 و2019 والسماح بأكثر من طفل وتيسير اللوائح المتعلقة بتكوين أسرة من طفلين وحتى ثلاثة أطفال في نقلة نوعية كبيرة بين السياسات التقييدية والأخرى الانفتاحية فيما يتعلق بالزيادة السكانية.
هذا التغيير في السياسة الصينية سمح للشركة بتوقع مستقبل باهر لقطاع العقارات، ولم تتوقع أن سياسات الحكومة الصينية لاحقًا ستكون بهذا التخبط؛ فقامت بصنع فقاعة ستنفجر في وجهها يومًا ما.
جاءت أول عملية تخلف عن السداد منتصف 2018 لمدفوعات دين قدرها 4.2 مليار دولار، حينها بدأت شركات التصنيف الائتماني في التركيز وتسليط ضوء محلليها وأقسام بحوثها على "إيفرجراند" التي لفتت انتباه العاملين في قطاع الائتمان.
وبدأت الشركات تخفيض تصنيف "إيفرجراند" مرة تلو الأخرى، وكما نعرف كلما أصبحت المخاطرة أعلى ارتفعت الفائدة، والكارثة تكون أكبر في حالة كانت القروض بفائدة متغيرة أو احتياج الشركة لسيولة بنكية طوال الوقت، فترتفع الفائدة ومصروفات الدين بشكل مركب متضاعف وتضغط على الإيرادات.
حاولت "إيفرجراند" في أواخر 2020 عرض خصومات مغرية وجذابة للعملاء وصلت إلى 30% تخفيضًا على وحداتها وعقاراتها لتنشيط البيع مرة أخرى لكن مشكلة الجائحة عقّدت الأمور أكثر وقللت من الأثر الذي كان متوقعاً لحملة التخفيضات هذه ولم تأت بالمعدلات المرجوة على الأرباح نهاية 2020 التي كانت أقل من 2019 و2018 بمسافة كبيرة.
المشكلة الأخرى أن "إيفرجراند" متورطة أو لنقل مرتبطة بحوالي 128 بنكاً و121 مؤسسة مالية غير مصرفية، المشكلة كبيرة لدرجة أن المركزي الصيني أو بنك الشعب صرح في تقريره للاستقرار المالي عام 2018 أن "إيفرجراند" قد تشكل مصدر خطر على كل النظام المصرفي والمالي الصيني.
العملاء المغدورون أول من وقع في الفخ:
بدأت احتجاجات العملاء الساخطين منذ العام الماضي، فحوالي 1.5 مليون عميل للشركة ينتظر تسلم عقاره ويكتم أنفاسه على وقع أخبار التعثر والاضطرابات المالية التي يسمعها في وسائل الإعلام، علاوةً على صعوبات تواجه آلاف العملاء في سحب أموالهم واسترداد مقدم (عربون) الحجز الذي يبلغ في المتوسط 30% من إجمالي ثمن العقار، والأسوأ من ذلك هو التوقعات بموجة انخفاض لأسعار السوق العقاري على وقع أزمة "إيفرجراند" وهو ما اضطر كثيرا من عملائها للتفكير في التخلص من عقاراتهم التي لم يمتلكوها بعد اليوم قبل غد.
ومن ناحية أخرى، يتظاهر أيضاً موظفو الشركة نظراً لتأخر صرف رواتبهم بسبب أزمة السيولة لدى إدارة الشركة التي توظف أكثر من 123 ألف موظف ومرتبطة بتعاقدات مع آلاف الشركات والموردين، بالتزامن مع تشديد السلطات الصينية لإجراءات الاقتراض الخاصة بالشركة مع أي بنك داخل البلاد لمحاولة السيطرة على الأزمة والتوقف عن علاج الديون السيئة بديون أكثر سوءا.
عذر أقبح من ذنب:
حاولت الشركة تبرير موقفها المستهتر الذي تصرفت فيه بتهور واتجهت للاستدانة المفرطة اعتماداً على أرقام الإيرادات العالية، لكنها لم تأخذ في حسبانها خطأ بسيطا وهو أن المعيار الحقيقي هو إجمالي وصافي الربح وليس الإيرادات التي لا تعبر تعبيراً حقيقياً عن أداء الشركات.
في الواقع كانت "إيفرجراند" قد حققت إيرادات في 2020 هي الأعلى في تاريخها عند 507 مليارات يوان لكن إجمالي الربح (بعد طرح تكلفة المبيعات من الإيرادات) كان 122 مليار يوان في 2020 وهو رقم أقل من المتحقق في 2018.
الخطورة التي تشكلها "إيفرجراند" على السوق الصيني:
يعتقد أغلب الخبراء أن شركة "إيفرجراند" لن تتمكن من تسديد التزاماتها بالطرق التقليدية، ولكي تحافظ على وجودها ربما تخاطر برمي كرة ثلج كفيلة بأن تتدحرج وتكبر لكي تُسقط سوق العقارات في الصين بأكمله معها.
ما نحاول قوله هنا أن الشركة قد تتوجه لبيع كافة عقاراتها وأصولها بأسعار زهيدة للغاية لأول مشتري بهدف سداد التزاماتها، وهنا يفرض مبدأ العرض والطلب ببساطة أن أسعار العقارات في الصين عمومًا ستتأثر بموجة البيع الضخمة تلك.
عين الإعصار ستكون في المناطق التي يتركز استثمار "إيفرجراند" بها، حينها لن تتضرر الشركة فقط، بل سينهار معها كل من يعمل في مجال العقارات في تلك المنطقة.
خطورة انهيار "إيفرجراند" على السوق العالمي:
قد يكون واضحًا تأثير الشركة الصينية على سوقها المحلي، لكن لماذا يرتعد ويخاف العالم من انهيار "إيفرجراند"...؟
في الواقع، عندما كانت الشركة تحقق أرباحًا مجزية وتتمتع بسمعة حسنة، لم تقف البنوك والمؤسسات المالية الكبرى في أمريكا والعالم متفرجة، بل سارعت لشراء سندات الشركة وباعتها في أسواق وول ستريت على أنها سندات رهن عقاري من الدرجة الاستثمارية.
حينها اعتقد الجميع أن شركة ضخمة ومزدهرة مثل "إيفرجراند" لا يمكن أن تنهار بسهولة، وأن الحكومة الصينية ستقف في وجه أي انهيار أو أزمة محتملة تواجه "إيفرجراند".
مع تراجع أسهم الشركة وظهور دلالات التأزم والانهيار، لم تتردد المؤسسات المالية والبنوك الكبرى في أمريكا بالتخلص من سندات الشركة بأثمان منخفضة ولأي شخص يشتريها، وهكذا بالتدريج تحولت أصول "إيفرجراند" من "الدرجة الاستثمارية" إلى "أصول سامة".
في الوقت الحالي فإن سوق الأوراق المالية في أمريكا مهددة بالدخول في حلقة مفرغة، الجميع ينظر لسندات "إيفرجراند" كقنبلة موقوتة ويرميها لأقرب أحمق يقتنع بشرائها.
وإذا شارفت هذه القنبلة الموقوتة على الانفجار، حينها سيضطر الفيدرالي الأمريكي لشرائها بهدف تخفيف الضرر على السوق قدر الإمكان، ونشهد بذلك أزمة مشابهة لأزمة الرهن العقاري الشهيرة عام 2008.
كيف يمكن أن يكون الحل؟
استغاثت الشركة بالحكومة الصينية، وبالفعل بدأت السلطات في التفاعل مع هذا الطلب والتعامل مع الأزمة وفي نفس الوقت عينت "إيفرجراند" عدداً من الشركات الاستشارية المالية، وأغلب السيناريوهات تميل نحو إطلاق السلطات الصينية لحزمة إنقاذ ضخمة لتعويم الشركة ومنعها من الغرق لكيلا تسحب معها كامل القطاع العقاري والمصرفي الصيني للهاوية.
بعض التحليلات تحدثت بيقين عن أن "إيفرجراند" ستنجو من الأزمة بلا شك بناء على واحدة من الفكرتين الآتيتين: الأولى: Too big to fail، أو "أكبر من أن يفشل" والثانية: الحكومة لن تترك كرة الثلج تنمو وتتضخم، والمقصود بكرة الثلج هي "إيفرجراند" التي ستجرف معها القطاع العقاري والمصرفي حال انهيارها، لكن هناك منهج آخر يلوح في الأفق وهو أن الحكومة الصينية ستتبع مسارا يمكن أن نطلق عليه : Building implosion.
منهجية "Building implosion" ترجمتها الحرفية أنها طريقة تفجير المباني المطلوب إزالتها دون أن تتضرر الأبنية المجاورة لها، وهي طريقة هندسية دقيقة لوضع المتفجرات في زوايا ونقاط معينة في المبنى لدفعه للسقوط دون التسبب بضرر للمنطقة بأكملها، لكن التشبيه المقصود هنا أن تقوم الحكومة الصينية بعملية جراحية للتخلص من "إيفرجراند" دون التسبب في ضرر بالقطاعات المرتبطة والتي تتغذى عليها في البنوك والعقارات والتوريدات العمومية.