سواءً بالنسبة للأفراد أو الحكومات، بات التعليم مع الوقت يصبح مكلفًا للغاية، ومع تحول الشهادة الجامعية إلى مرتبة اجتماعية أكثر من كونها دليل علم أحيانًا، قرر العديد من الخبراء والمسؤولون إعادة النظر إلى جدوى التعليم الجامعي، لتعود إلى الطاولة جدلية الصراع بين الشهادة والمهارة التي تسببت بالعديد من الضجة سابقًا.
وبما أن الأمر دائمًا ما يبدأ بالدول المتقدمة ومن ثم يصبح قاعدة وقانونًا في الدول النامية، فلا بد من مناقشة القضية في مكانها الصحيح.
هل تستحق الشهادة كل هذه الديون؟
متوسط ديون الطالب الأمريكي - في الجامعات الحكومية - عبر القروض الدراسية من البنوك تصل إلى 25 ألف دولار، ونحو ثُلثي الطلبة يسددون القرض بعد عدة سنوات من التخرج والحصول على وظيفة، بينما ينجح الثُلث فقط في الانتهاء من سدادها قبل التخرج.
لكن مقابل هذه التكاليف المرتفعة والأعباء النفسية الكبيرة على عاهل الطالب الجامعي وأسرته جراء الديون، هناك مكاسب مرجوة بعد كل هذا العناء، طلبات التوظيف للجامعيين آخذة في الارتفاع مقارنة بمن لا يحملون أي شهادة جامعية في السنوات الأخيرة.
ومع متغيرات وتأثيرات الجائجة العام الماضي، تعززت هذه الحقيقة، حيث تقول الإحصائيات الرسمية إن البطالة وسط حملة الدكتوراه تبلغ 2.5% بينما تبلغ 12% بين حملة شهادة أقل من مدرسة ثانوية... نرى فارق شاسع بين الفئتين في الوصول للسوق ونيل الوظيفة.
إذن فقد أثبت التعليم الجامعي أنه استثمار ناجح حينما وقعت الجائجة، صاحب الشهادة الجامعية وبسبب مهاراته وطبيعة عمله التي لا تستلزم حضوره يومياً لمقر عمله ولا تستلزم منه مجهوداً بدنياً شاقاً، يستطيع أن ينجز نفس المهام من أي مكان بدرجة أكبر مقارنة بالموظف غير الجامعي والذي يستلزم عمله أداء مجهود بدني معين وبالتالي حضوره يومياً شرط جوهري لكي يؤدي المهام ويحصل على الراتب.
أنصار التوظيف وفقًا للمهارة:
يقول "إيلون ماسك" بكل ثقة: "ليس هناك أي حاجة لأن يكون لديك شهادة جامعية، والمهارات الاستثنائية هي الأهم".
لكن بالتأكيد هذا لا يعني أن شركاته "تسلا" أو "سبيس إكس" التابعتان ل "ماسك" تقومان بتوظيف طواقم عمل من الجهلاء أو المتسربين من التعليم، بالتأكيد لا، شركاته تعُج بالجامعيين وحاملي الماجستير والدكتوراه الذين يُعدون ضمن الأنجح والأذكى في العالم، لكن لو توفر شخص ما بقدرات وخبرات ومهارات استثنائية وتقدم لوظيفة تشترط أن يكون صاحبها حاملاً لماجستير، هل سوف تتعنت الشركة وتتمسك بشروطها في الماجستير؟ بالتأكيد لا.
وبالتأكيد حديث "ماسك" لا يعني أن الشركات الكبرى والكيانات الصاعدة مثل "تسلا" لا تنظر إلى سير أعمال خريجي الجامعات الكبرى، لا أحد يفعل ذلك، لكن الشهادة ليست كل شيء، المهارات الشخصية، الذكاء الاجتماعي، القدرة على التعامل مع الضغوط، القابلية للتطوير والقدرة على خلق توازن بين حياتك الشخصية والمهنية، استقبال الانتقاد والأهم من ذلك التزامك بالمعايير الأخلاقية، كلها أمور متساوية في الأهمية مع الشهادة الجامعية.
استطلاع رأي قديم يخرج بنتائج لافتة:
وجه مركز أبحاث "أسوشيتيد برس –نورك للسياسات العامة" أسئلته إلى عينة من 2573 شاباً أمريكياً بين سن 13-29 عاماً، بين أغسطس وسبتمبر 2019 والسؤال كان كالآتي: إلى أي درجة تعتقد أن الدرجة التعليمية تساعد الشخص على النجاح في الحياة؟
على أرض الواقع... الأولوية للشهادة لكن الاستثنائات موجودة:
بغض النظر عن كلام المليارديرات الحالمين أو استطلاعات الرأي، حاول أن تضع نفسك مكان صاحب أحد الأعمال /الشركات وقمت بالإعلان عن إحدى الوظائف الخالية لديك، لنقل مثلا وظيفة: محلل مالي، وتقدم إليك ثلاثة أشخاص أولهم يحمل "بكالوريوس" في تخصص المحاسبة مع خبرة عامين والثاني بكالوريوس محاسبة مع خبرة أربعة أعوام وماجستير في التحليل المالي، والثالث يحمل شهادة جامعية في اللغة الإنجليزية وصفر خبرة وقد اجتاز بضعة دورات تدريبية على أحد المواقع أو المعاهد مثلاً، أيهم ستفضل؟
بنظرة واقعية، المهارة والموهبة والقدرة تكون بالفعل أهم وأكثر أولوية من الشهادة الجامعية فقط في حالة كانت هذه القدرات تتسم بالاستثنائية والتفرد، عدا ذلك فأصحاب الشهادات غير المعترف ودورات الأون لاين بها لن يصمدوا في أي معركة مع أصحاب الشهادات المعترف بها في 85% من الوظائف المهمة.
في المستقبل:
يعتقد المطلعون أنه لو خرجت لنا مؤسسات رسمية وذات ثقل تقدم تعليم خاص بسوق العمل، وتم تخصيص الجامعات لطلبة العلم فقط، حينها فقط سيكون الانتصار في هذه المعركة لأصحاب المهارة. وهذا الأمر قد يمكن تنفيذه في المستقبل على المدى المتوسط والبعيد.