يرغب جميع من في سوق المال والأعمال بسماع التوقعات الاقتصادية خصوصًا تلك المتعلقة بمجال استثمارهم، ويصنف العديد منهم تلك التوقعات وأصحابها حسب الموثوقية. لكن مهما كانت التوقعات موثوقة وتخرج من طرف خبراء مخضرمين فإنها تصيب حينًا وتخيب أحيانًا.
في الواقع إن التنبؤ الاقتصادي العلمي لا يُبنى على التصريحات أو التقديرات الجزافية، وهو عملية معقدة وحساسة بهدف الوصول إلى أقرب تقييم لمستقبل الاقتصاد ومكوناته والعوامل المؤثرة فيه، وتتم باستخدام مجموعة واسعة من المؤشرات المهمة.
كيف انحرف الاقتصاديون إلى طريقٍ آخر؟
بالرغم من رغبة العديد من الاقتصاديين بالاعتقاد بأن تخصصهم أصبح أكثر تقدمًا من السابق، لكن دراسة الاقتصاد التي تستمر بالتطور منذ 250 عام على الأقل قد تأخذ أحيانًا منحى خاطئًا. في هذا الخصوص يجادل اثنان من كبار الاقتصاديين البريطانيين بأنه في إطار جهود جعلها أكثر "صرامة"، ضل الاقتصاديون الطريق بشكل خطير.
في أهم كتاب اقتصادي لعام 2020؛ "عدم اليقين الراديكالي: اتخاذ القرار من أجل مستقبل مجهول"، من تأليف البروفيسور "جون كاي" من جامعة أكسفورد والبروفيسور "ميرفين كينج"، المحافظ السابق لبنك إنجلترا، يجادل الخبيران بشأن التحورات الجوهرية التي دخلت على دراسة الاقتصاد.
منذ الحرب العالمية الثانية، كان الدافع الأكبر لدراسة الاقتصاد، هو جعل العلم أكثر صرامة وإحكامًا من خلال التعبير عن حججه واستدلاله في المعادلات الرياضية بدلاً من الكلمات والرسوم البيانية. ولهذا السبب يُتهم الاقتصاديون أحيانًا بمحاولة تمييز تخصصهم عن العلوم الاجتماعية الأخرى بجعله أشبه بالفيزياء.
في الوقت الحالي باتت الرياضيات تهيمن على علم الاقتصاد لدرجة أنه أصبح تقريبًا فرعًا من الرياضيات التطبيقية.
مع ذلك، لا يعترض "كاي" و"كينج" على الاستخدام المتزايد للرياضيات (كانت هناك تطبيقات نافعة ورائعة بالفعل). لكن يقولان إنه خلال محاولة جعل النظرية الاقتصادية التقليدية أكثر قابلية للتكيف مع التفكير الرياضي، أضاف الاقتصاديون بعض الافتراضات المبسطة حول الطريقة التي يُفترض أن يتصرف بها الأفراد والشركات وصانعو السياسات الاقتصادية والتي تأخذ النظرية الاقتصادية بعيدًا عن الواقع.
الخيط الرفيع بين المخاطرة وعدم اليقين:
في عام 2004، عندما أطلق علماء وكالة "ناسا" صاروخًا للدوران حول عطارد، خلصت حساباتهم أنه سيسافر 4.9 مليار ميل ويدخل المدار في مارس/ آذار 2011. لقد فهموا ذلك تمامًا لأن معادلات حركة الكواكب تم إدراكها جيدًا منذ القرن السابع عشر، ولم تتغير على مدى ملايين السنين، كما أن أفعال البشر لا تؤثر على هذه الحركة.
على الجانب الآخر، هناك أيضًا نظرية الاحتمالات، مثلما هو الحال في ألعاب الحظ حيث يمكن حساب احتمال أن تكون البطاقة التالية هي الآس البستوني.
وفي عام 1921، دعا البروفيسور "فرانك نايت" من جامعة شيكاغو إلى ضرورة التمييز بين "المخاطرة" و"عدم اليقين". يتم تطبيق المخاطر على الحالات التي يمكن فيها حساب احتمال حدوث شيء ما بدقة، أما عدم اليقين فينطبق على الحالات الأكثر شيوعًا التي لا يمكن لأحد أن يقول بأي قدر من اليقين ما سيحدث.
أما الاقتصاد، فوفقًا لـ "كاي" و"كينغ" فقد اتخذ منحى خاطئًا عندما تمت إزالة هذا الخيط الفاصل بين المخاطرة وعدم اليقين. وأصبح الاقتصاديون قادرين على المضي قدمًا في اختزال كل شيء إلى معادلات واستخدامهم لعمل توقعاتهم حول ما سيحدث في الاقتصاد. والحقيقية أن هذا التوجه خاطئ بشكل صارخ.
بدلًا من مواجهة حالة عدم اليقين المحيطة بالقرارات الاقتصادية التي يتخذها البشر، فقد وقع علم الاقتصاد في فخ استخدام اثنين من الافتراضات المريحة ولكن غير المبررة، لجعل علم الاقتصاد أشبه بعلم فيزيائي ولعبة حظ حيث يمكن حساب احتمالية حدوث الأشياء بدقة.
وبهذه الوتيرة استمر الاقتصاديون في خداع ذاتهم، فإذا قيل لخبير اقتصادي إنه يعتقد أنه يعرف ما يخبئه المستقبل، فسوف ينكر ذلك بشدة. لكن الحقيقة هي أنهم يواصلون تحليل السلوك الاقتصادي والتنبؤ بطرق تفترض ضمنيًا أنه من الممكن معرفة المستقبل.
من كل ذلك يستنتج المؤلفان أن علم الاقتصاد والأعمال والتمويل غير ثابت ولا تحكمه قوانين علمية ثابتة، ويقولان: سيجري الأفراد ومجموعات مختلفة تقييمات مختلفة ويتوصلون إلى قرارات مختلفة، وغالبًا لن تكون هناك إجابة صحيحة بشكل موضوعي، سواء قبل الحدث أو بعده".
المصدر: أرقام - صحيفة سيدني مورنينج هيرالد