وفّرت وسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي لفئة كانت لا تؤخذ بعين الاعتبار من الناس فرصة للظهور والانتشار، بعدما تطبّع الناس تدريجيا مع هذا العبث، من خلال الدفع بنكرات ومجاهيل ومغمورين لم يكونوا شيئا إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية؛ نتيجة قيامهم بأعمال "عبثية" وأشياء "تافهة". وهكذا ببساطة ظهر ما يسمى بـ "صناعة التفاهة"، وعن هذا الوضع قال ذات مرة الروائي الأمريكي جورج سانتايانا "حب الشهرة أعلى درجات التفاهة".
لا تنحصر صناعة التفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب؛ حتى إن ظلت مصدرها الأول بلا منازع، بل تتعداها إلى مسألة تسطيح الثقافة، وإلغاء القيم، والتباس المفاهيم... حينئذ تكثر الوجوه وتتعدد، لدرجة يختلط فيها الصالح بالطالح.
الجمهور هو صانع التفاهة الحقيقي:
يخطئ الكثيرون حينما يفصلون هذه الإنتاجات عن الاهتمام الجماهيري، حيث يعتقد المتابع أن هناك سيطرة من جهة واحدة، التي تنتج المحتوى فقط، ويبقى المتابع هو الحلقة الضعيفة التي تستهلك فقط، وتشتكي من قلة الذوق والتفاهة، أو تشجع الإبداع والرقي، لكن بوصول هذا المحتوى إلى حائطك الفيسبوكي، أو صفحتك على اليوتيوب، يكون قد مر بالعديد من المراحل قبل أن يصبح مادة للمتابعة والإعجاب أو الانتقاد.
تبدأ القصة بمحرر المحتوى وصانعه، حيث يفكر الفنان أو السياسي أو الفكاهي بالموضوع أو العمل الذي سيطرحه في السوق، وبناء على الذوق العام المنتشر يتم اختيار الطريقة التي سيتم بها تسويق المشروع، ويتم رصد المبالغ المالية الكافية لإنتاج ثم عرضه على المتلقي.
بعد ذلك، يصل هذا المحتوى إلى قنوات اليوتيوب أو صفحات الفيسبوك، وتبدأ خوارزميات شبكات التواصل الاجتماعي بالاشتغال، حيث يتم تصنيفه انطلاقا من عدد المتفاعلين معه، بأزرار الإعجاب أو المشاركة، إلى أن يعتبر "الروبوت" الخاص بعرض التحديثات على حائطك أن هذا المحتوى ربما سيكون محط اهتمامك، لأن العديد من أصدقائك أو محيطك أو بلدك قد اهتموا به، وزر "Trending" على اليوتيوب هو خير مثال على ما نحاول شرحه، حيث تجتمع الأخبار والفيديوهات والأعمال التي تم مشاهدتها من طرف المتتبعين ويتم ترتيبها حسب أعداد المشاهدة.
انطلاقًا من النقطة السابقة نفهم أن الذي يؤول دون انتشار المحتوى الهادف، بالمرتبة الأولى هو المتتبعون والمستهلكون لهذا المحتوى، حيث أن ارتباط شبكات التواصل الاجتماعي بأرض الواقع، يشكل نقطة محورية في نوع المحتوى المنتشر، الاهتمامات اليومية للشعوب هي من تختار صراحةً المحتوى الأكثر انتشارا، حيث يمكن أن نفسر هذه الظاهرة بالملفات أو قضايا الساعة التي تكون محط متابعة في بعض الأيام، فاهتمام الشعب بـ "قضية ما" يجعلها تتربع على محركات البحث وصفحات التواصل الاجتماعي وفيديوهات اليوتيوب.
للسياسة دورٌ أيضًا:
بعيدا عن نظرية المؤامرة، تستفيد دول العالم الثالث من الهيجان الذي يعرفه العالم الرقمي بالمحتوى التافه، في ظل الرغبة القوية للدول الديكتاتورية، باستمرار هذه الظاهرة، لأنها تحجب أخطار "الوعي" بالحقوق والواجبات، فيتحول الحس النقدي الذي ينتج عن متابعة لمواد هادفة وتكوينية أو ترفيهية راقية، إلى حس "فضائحي" و"سطحي" من طرف سكان الفيسبوك واليوتيوب.
في ظل كل ما ذُكر سابقا، من الصعب أن نقدم حلولا واضحة لمحاربة صناعة المحتوى التافه، لأنه بطريقة أو بأخرى يعبر عن مدى وعي المواطنين والمستهلكين بهذه الدول، حيث هناك فئة تتابع وتتغذى على هذا المحتوى وتسانده حتى ولو بحسن نية أحيانا. لذلك الواجب من المجتمعات والمؤسسات والجمعيات والمبادرات أن تطور فضاءات نقاش وتكوين وبناء وعي لمواطنيها، لأنه هذه المبادرات هي التي ستمنع الفرد من أن يكون صانعا للتفاهة.
المصادر: جريدة العرب الاقتصادية + الجزيرة (غسان بن الشيهب).